الأربعاء, يناير 8, 2025

الفضاء السيبراني وأزمة الديمقراطية من الكومبارس الرقمي إلى الفعل السياسي

news

ملخص
تعالج هذه المقالة إشكالية الفضاء العام وأزمة الديمقراطية والتبعية الرقمية، على ضوء التحوالت الناتجة
عن سيادة السيبرانية في الحياة اليومية للمجتمعات المعاصرة، وبالخصوص المجتمعات ذات التجارب
المتواضعة من حيث التحديث والديمقراطية؛ هدفها المساهمة في إثراء النقاش إليقاف تشظي السياسة
ممارسة وتنظيرا كسبيل للحيلولة دون تسفيه اإلنسان وسبي المدينة ضمانا لمقومات دولة الحق والقانون
الراعية لالستقرار والرفاه في زمن الرقمنة، مما يتطلب عقلنة الفضاء السيبراني ودمقرطته واستقالله. وقد
رسمت كسبيل لها القيم التنويرية )المساواة والحرية والتسامح(، من أجل التقدم واالنخراط الفاعل والفعلي
في عالم المعرفة والعلم وتكنولوجيا اإلعالم واالتصال. هذا العالم الذي يحتاج لفعل سياسي واجتماعي وثقافي
ُ مختلف يناسبه، ولمواطنة متجددة، بمعنى آخر لوعي تحديات العالم الجديد. ومن أجل ذلك تمت مقاربة
إشكالية التحكم في سالسل القيمة الرقمية وما ينتج عنه من ظهور أشكال جديدة من االستعمار والعبودية.
3
تقديم
قبل الخوض في إشكالية الفضاء العام على ضوء السيبرانية، ال بد من التأكيد أن األمر جدي وحاسم
اليوم بالنسبة إلى استقرار مجتمعاتنا وتقدمها؛ ألن الفضاء السياسي والسياسة هو ما يمكن أن يجمع المواطنين
والمواطنات ليفكروا بشكل جماعي حول حياتهم واستمرارها وحتى ال يتحولوا إلى كائنات بشرية معزولة
عديمة الجدوى وتافهة. إنها مسألة وجود إنساني. وكما تقول حنا أرندت: »إن المدينة هي الفضاء الوحيد
1 .بعبارة حاسمة؛
الذي يمكن أن يمنح اإلنسان الفاني إقامة أكثر ديمومة وأكثر استقرارا منهم أنفسهم …«
ألن ال وجود للسياسة في غياب الفضاء العام.
إن أول سؤال يتبادر للذهن عند معالجة إشكاليات الفضاء العام على ضوء التحوالت التي تعيشها
اإلنسانية منذ خمسينيات القرن الماضي وبالخصوص منذ العشرية األخيرة منه بسرعات ما فتئت تتصاعد
بطريقة هائلة، هو هل بإمكان المجتمعات التي لم تعرف التحديث خالل ما يتعارف عليه بزمن الحداثة،
َ أن تعيش ما يطلق عليه اليوم بما بعد الحداثة؟ بمعنى آخر، هل بإمكاننا كمغاربيين أو كعرب ومسلمين
أن ننتقل لمجتمعات ما بعد الحداثة دون أن نكون قد نجحنا في ما هو أساسي من محطات التحديث على
المستوى السياسي واالجتماعي والثقافي واالقتصادي؟ ال أعتقد أن لي جوابا شافيا وقاطعا لهذا السؤال،
ولكن يمكن المغامرة بالقول إن حدوث ذلك أمر صعب أو على األقل سوف يكون االنتقال إلى مجتمعات
ما بعد الحداثة متعثرا إن لم يكن مشوها ومتخلفا. وإذا كانت قيم الحداثة مستمدة من فكر األنوار الذي أريد
له أن ال يكون إال غربي المنشأ، بل لم يخرج عن الحدود األوروبية، فإن هذا الزعم كان محط نقد وتشكيك
من مفكرين محسوبين على الغرب وآخرين على الشرق. ويمكن القول إن هذه القيم التنويرية )المساواة
والحرية والتسامح( المنبعثة من العقل البشري، والتي شكلت تربة خصبة لمنظومة حقوق اإلنسان والحريات
الجماعية والفردية، ال يمكن أن نجادل في جدواها لالنفكاك من قيود الماضوية المتخلفة ومن أجل التقدم
واالنخراط في عالم المعرفة والعلم وتكنولوجيا اإلعالم واالتصال، عالم الواقع االفتراضي الذي يميز ما
ُ يسمى بما بعد الحداثة. هذا العالم الذي يحتاج لفعل سياسي واجتماعي وثقافي مختلف يناسبه، ولمواطنة
متجددة، بمعنى آخر لوعي تحديات عالم النانو تكنولوجيا والبيوتكنولوجيا والمعلوميات والعلوم المعرفية
)NBIC (cognitives sciences et informatique biotechnologies, nanotechnologies.)
2 السيبراني الذي أصبح يأخذ
ولهذا، ال بد لنا من ركوب مغامرة محاولة فهم ميكانيزمات »الفضاء«
وقتا كبيرا من حياة النخب بكل أصنافها، السياسية والثقافية واالقتصادية واإلدارية، إذا لم نجازف بالقول إنه
أصبح الحياة كلها، وإنه أكبر من مجرد وسيلة لنقل المعلومة كما هو الشأن بالنسبة إلى الكتابة أو الراديو أو
,2002, Gallimard Quarto, France, Jérusalem à Eichmann et totalitarisme du origines Les, Hannah, 1Arendt
Kindle Format)(
2 وضعت الفضاء بين مزدوجتين؛ ألنه ليس فضاء عاما بالمعنى الكالسيكي للمفهوم. وسيتم التفصيل في ذلك فيما بعد في هذه المقالة.
4
التلفزيون. إنه حياة أخرى تأكل يوما بعد يوم من حيز الحياة المعتادة. وفي سياق ذلك، ال بد لنا من استحضار
التحوالت التي عرفها الفضاء العام منذ بداياته األولى في القرن الثامن عشر. ولذلك البد من العودة إلى بعض
َ النصوص التأسيسية، كمقالة كانط »ما هو التنوير؟« المنشورة سنة 1784 ،ومجموعة من كتب يورغن
هابرماس، أخص بالذكر كتاب »الفضاء العام«، و»التقنية والعلم كأيديولوجيا«، و»نظرية فعل التواصل«،
وكذلك حنا أرندت وبالخصوص كتابها »جذور التوليتارية وغيرها من المراجع األساسية في هذا المضمار.
من نافل القول إن مع كل تقدم علمي وتكنولوجي، يشعر اإلنسان بالخوف على حياته، وعلى حريته
وتحقيق ذاته، وعلى العالقات االجتماعية والقيم المشتركة بين الناس. ولذلك، ففي الغالب األعم تتبلور رؤى
كارهة لهذا التقدم، وأخرى مغالية في تقدير مزاياه. فلذلك تصبح الحاجة إلعمال العقل المستنير حيوية ألجل
التحلي بذلك الشك البناء الذي ال ينسى مهمته األولى، وهي االستمرار في التقدم والتحديث باحثا عن مكامن
الضوء التي ستدفع بالسيرورة إلى التقدم العادل. فلذلك نالحظ أن كل تقدم علمي وتكنولوجي يكون ناتجا
ً له، على المستوى السياسي واألخالقي. وكل معرفة لمخاطر التقدم العلمي
عن تقدم معرفي وعملي أو جالبا
التكنولوجي هي في حد ذاتها تقدم.
َّ ستتطرق هذه المقالة لمقوالت الفضاء العام والرأي العام والتواصل كما عرفها رواد التنوير الغربي،
حتى يتسنى لها مقاربة مقولة الفضاء السيبراني على ضوء مفهوم الفضاء العام بحمولته السياسية ومفهوم
المكان العام ذي المغزى االجتماعي، والديمقراطية التداولية في عصر الرقمنة. وستنتهي بتعريف الكومبارس
َخلفة رقميا. إن تقسيم دول العالم إلى متقدمة أو نامية
الرقمي؛ أي أولئك المستهلكون من دول ومجتمعات مت
أو في طريق النمو، أو دول الجنوب والشمال، كما كان متداوال في القرن الماضي قد ال تفي بالغرض اليوم،
بل يمكن القول إن التصنيف قد يتمحور حول من يتحكم في سالسل قيمة الرقمنة والتكنولوجيا ومن هو تابع،
وأن التبعية الرقمية سوف تكون أكثر دمارا من تبعية ما بعد الكولونيالية االقتصادية والسياسية؛ ألنها تتوفر
على شرطين ضروريين إلرساء سياسة توتاليتارية في تدبير »الشعوب«، تفتت المجتمعات والتحكم في
الرأي العام.
5
الفضاء العام فضاء سيايس عقالين
ارتبط الفضاء العام عند مفكري التنوير، وفي عصرنا هذا عند هابرماس بظهور الدولة العصرية مع
َون رأي عام من أجل تغيير سيادة الدولة الملكية سياسيا واقتصاديا؛ إذ انتقل
َك
بزوغ الطبقة البرجوازية وت
نقاش النخبة البرجوازية من أمكنة خاصة محدودة إلى دائرة أوسع من أندية وغيرها. وقد تم تعريفه على أنه
الفضاء الذي تنمو فيه القدرة على النقد من أجل التغيير؛ فهو فضاء حيث يُ َ ستعمل العقل في بلورة القدرة على
التقدير والنقد الشفاف، وهو أحد المفاهيم األساسية للتنوير )كانط(؛ ألنه يشكل العامل الحاسم لبُلوغ اإلنسان
ُ َمارس
مرحلة الرشد؛ أي عندما يصبح اإلنسان هو المسؤول عن مصيره، ليخرج من حالة الوصاية التي ت
َعليه بشتى أصنافها. وتعني الوصاية عدم قدرة اإلنسان على الثقة في عقله، وفي بلورة رأيه وتحمله مسؤولية
ُدرة خارجة
َّنوير إذن هو تحرير للعقل واكتساب للشجاعة على التعبير عن الذات. إن أي استعمال لق
ذلك. فالت
ْ عن اإلنسان هو تبرير الس ُ تعباده وفي نفس اآلن هو اختيار لع َ بودية ط ْوعية.
إن تحرير العقل وبلوغ الرشد ال يتم إال ضمن الجماعة وليس من لدن الفرد المعزول للتعبير عن
المصلحة العامة وليس الخاصة )هابرماس(. فالفضاء العام إذن سياسي مستقل عن السلطة السياسية واإلدارية
واالقتصادية في الفكر التنويري، حتى يتسنى له القيام بالمهام الموكولة له في استقالل تام عن من لهم مصالح
فئوية. وقد وضعه منظرو الفضاء العام منذ كانط وهابرماس وحنة أرندت وغيرهم، بين الدولة والمجتمع
المدني، حيث يلتقي المواطنون للنقاش الحر حول قضايا ذات الصلة بالمصلحة العامة، وغاية ذلك بلورة
رأي عام سياسي.
ومن مهام الفضاء العام نقد الدولة والتأثير عليها واقتراح القوانين والمعايير والعمل على تتبعها
ً ومراقبتها. ولذلك يجب أن يكون فضاء ّ حرا ومفتوحا ولكن في نفس الوقت ال يكون به أعضاء حكوميون أو
فاعلون اقتصاديون محكومون بمصالحهم الضيقة، بل يتكون من جمهور مستنير عقالني وحر ال يستند في
حجته ال على السلطة وال على التقليد في نقاشه.
غير أن هذا التعريف لم يعد يتمتع بصالبة أسسه االجتماعية وتماسكها كما كان عليه األمر مع الثورة
َيها األولى )الطاقة البخارية والمكننة البسيطة(، والثانية )الطاقة الكهربائية والمكننة
َ الصناعية في صيغت
ِنة، بين من يريدون التحديث ومن يتمسكون بالقدامة، بين
َ المركبة(. كانت أطراف الصراع أثناءها بيّ
َّحدة واألهداف
الفيودالية والبرجوازية، بين الرأسمال وقوة العمل. يمكن القول إن قوى التغيير كانت مت
مشتركة وغير مركبة وغير مشتتة كما هو الحال عليه اليوم. وهذا ليس بحنين لهذا الواقع الماضي، بل مجرد
وصف لتحوالت موضوعية تفرضها سيرورة الوعي المجتمعي. كان الحزب والنقابة فضاءات عامة بامتياز
َ َّوس َع الولوج
ُ تعبر عن مصالح عامة لطبقات اجتماعية واسعة، محددة المصالح المَغيَّبة من طرف من يحكم. ت
َ َّوسع
َ للتعليم، ون َما الوعي االجتماعي والمشاركة المواطنة مع ظهور وسائل االتصال السمعية البصرية وت
6
ُّم السلطة الدولتية واالقتصادية في هذه الوسائل الجديدة، بدأ الفضاء العام يعاني
َحك
الولوج إليها؛ ولكن مع ت
من البلطجة، والسياسة تعرف ضربات موجعة لمصداقيتها، وهو ما ترجمته أزمة الديمقراطية التمثيلية كما
َ َ جربتنا المغربية.
يعيشها الغرب اليوم، وتشوه العملية السياسية برمتها كما هو الشأن بالنسبة لت
أزمة الدميقراطية التمثيلية وضعف التداول: مآالت الفضاء العام
كل ما قيل وكتب عن مفهوم الفضاء العام في المجتمعات الغربية قبل مجيء الدولة االجتماعية
والديمقراطية التمثيلية، لم يعد قادرا على فهم التحوالت التي حدثت داخل هذه المجتمعات بدخول فئات
واسعة من الشعب كانت مقصية، إما لهشاشة أوضاعها االقتصادية أو االجتماعية أو لجنسها في حالة النساء
ِها، إلى معترك النقاش العمومي. ففي مقابل فضاء عام واحد برجوازي،
ّ
ْنيتها او سن
أو بسبب إعاقتها أو إث
تعددت فضاءات التعبير حسب الخلفية االجتماعية لألفراد المشاركين فيها، قال عنها هابرماس انسجاما مع
ِقة بالفضاء العام البرجوازي العتمادها أسلوب عمله وتفكيره. إن
ّ
َحل
تعريفه له، أنها بقيت رغم تعددها مت
َّب ألشكال التعبير الجديدة. ولكن هناك العديد من
ِ ْر ُ ماسي قد ضاق عن المعنى المرك
تعريف الفضاء العام الهاب
ِ ْرماس يعتبر أن مشروعية
ِ ْرماسية ال تزال ذات جدوى لفهم هذا الواقع المتحول والمتنوع. فهاب
المفاهيم الهاب
ُ ْستمد من مشروعية طريقة الوصول إليه وليس من القرار في حد ذاته، وال من مصدره كما يقول
القرار ت
بذلك روسو. وبتعبير آخر، مدى اعتماده على التشاركية وحرية التعبير وديمقراطيته.
غير أن الديمقراطية التمثيلية قد تحولت إلى وسيلة إلضفاء المشروعية على أشخاص ذوي نفوذ
اقتصادي، والنتيجة هو ما يطلق عليه زواج المال والسياسة بغية تيسير المصالح الخاصة فردية كانت أو
فئوية. يضاف إلى هذا االنحراف، أن الديمقراطية أصبحت عبارة عن ماكينة لصناعة القرار لفائدة الحاكم.
إن هذه »الديمقراطية« لم تعد تعني داللتها األولى أال وهي حكم الشعب لخدمة الشعب. ففسد بذلك الفضاء
العام ومعه النقاش العام، وأصبحت المشاركة المواطنة خطابا للترويج، والتي جعلت منها الديمقراطية
التمثيلية خصما يجب عزله بل محاربته. إن ما يقضي على السياسة والديمقراطية هو عندما تصبح الثروة
ُ أسبق من السياسة، آنذاك، تنمو كراهية الشعب للسياسي كيفما كان ويرسو الشك حيال الجميع، مؤسسات
وأفرادا. وفي هذا األمر نالحظ تحوال كبيرا في الوعي المجتمعي يتطلب قطائع على المستوى السياسي مع
سلوكيات القرن الماضي، وأن نجعل من فصل السلطة السياسية عن السلطة االقتصادية مبدأ راسخا للتغيير.
في إحالة على دو توكفيل تقول حنة أرندت: »إن الفرنسيين أنفسهم لم يكرهوا األرستقراطية إال عندما فقدت
.
3
دورها السياسي ولم يبق لها إال التباهي بثروتها«
3 cit. op, Jérusalem à Eichmann et totalitarisme du origines Les, Hannah, Arendt .
7
وقد تبينت في الممارسة محدودية الفضاء العام والديمقراطية التمثيلية النخبوية، وبرز مفهوم الديمقراطية
التداولية لتوسيع المشاركة بدون وصاية البرجوازية على فئات أخرى واسعة هشة من الطبقات السفلى
ُ والنساء وغيرهم. وأصبح مفهوم الفضاء العام المَوحد والواحد مفهوما قديما ال يفي بما تستلزمه المجتمعات
اليوم. وعلى الرغم من أن ثقة الجماهير في الفضاءات العمومية للديمقراطية التمثيلية وفي النقاش العمومي
ومؤسساته أصبحت تهتز يوما بعد يوم، فإن التشبث بها كآليات سياسية لصنع الرأي العام يجب أن يظل ثابتا
في غياب بدائل حقيقية لها، ألدوارها األساسية في إعطاء الحياة لدولة الحق والقانون مع إعادة االعتبار
للتداول العمومي بتوسيع مشاركة المواطنين وتنويع أشكال التواصل بين الفئات المجتمعية مع ضمان حرية
التعبير والمساواة فيها؛ أي بالحرص على هوية الفضاء العام األصلية التي تم الكالم عنها أعاله.
وفي النهاية يمكن الكالم عن تعدد الفضاءات العامة بظهور قوى اجتماعية حية جديدة متنوعة ومختلفة،
بل متعارضة المصالح. ولكن يبدو اآلن أن هذا التحلق الذي تكلم عنه هابرماس لم يعد ممكنا وال موجودا
ْفالتها نسبيا
مع توسع الفئات المتعلمة من الناس وتنوع وسائل االتصال وسهولة ولوجها من لدن الجميع وان
من رقابة السلطات السياسية واالقتصادية، ومع اتساع حريات التعبير مقارنة بالماضي. فقد أصبحت أشكال
ِ االحتجاجات ووتائرها بمشاركة فئات واسعة في التظاهر، في تزايد غير معهود؛ إذ أصبح الشارع في المدن
بكل أحجامها وبعض القرى، يوميا مسرحا لها. كل هذا ساهم في اتساع »المشاركة« في الشأن العام، ولكن
في نفس اآلن، أدى إلى تفتت الرأي العام وصعوبة بنائه، بل وقد ساهم في تفكك الفضاءات العامة ما قبل
الرقمنة، وهو ما أصبحت معه مؤسسات الوساطة عاجزة عن مجاراته وتتبعه، بل واالنخراط للدفاع عنه. إن
التحوالت المجتمعية سارت بوتيرة أسرع من قدرة هذه المؤسسات على استيعابها. ولكن وفي نفس اآلن، كان
لهذه التحوالت صداها في الفضاء العام التمثيلي الذي عرف بدوره تحوالت من حيث حمولته االجتماعية،
بانخراط النساء به وفئات اجتماعية »شعبية« وحضور قروي أيضا. فقد انخرطت النساء فيه نتيجة خلقها
فضاءات عامة، »خاصة« بها وبخروجها إلى الشارع العام للتعبير عن رأيها، بل لقد اعطت النقاش العام من
أجل التحديث دفعة غير مسبوقة من خالل انخراطها في فضاءات ظلت لعقود مقصورة على الرجال منتقدة
ومحتجة ضد أبوية الفضاء العام التقليدي.
يقول هابرماس إن هذا الفضاء البرجوازي النشأة يعيش تفككا مع التحوالت االجتماعية والتاريخية
للدولة وما صاحبها من تحوالت سياسية، من الدولة الليبرالية إلى الدولة االجتماعية مع ديمقراطية الجماهير،
بل يعرف هذا الفضاء تشوها؛ ألنه حاد عن دوره األصلي كقوة مواطنة للتأثير في السياسات العمومية.
فقد تم االستيالء عليه ممن لهم مصالح ذاتية سياسيا أو اقتصاديا. فتحول النقد الحر النزيه إلى الماركتين/
التسويق التواصلي. وقد بلغ هذا المنحى األخير للفضاء العام مستوى غير مسبوق مع النيوليبرالية وما
ْ َ ه تكنولوجيا التواصل ومْهَنَنة فن التواصل من إمكانيات خارقة. يمكن القول إن الفضاء العام الكالسيكي
َ أتاحت
أصبح مصابا بداء الفكر الواحد الدوغمائي الذي تفنن التيقنوقراط في جعل السوق المبتدأ والخبر. لقد أصبح
8
ً الفضاء العام فضاء تكنوقراطيا بامتياز للتحكم في الرأي العام والتالعب به. وعليه يمكن القول إن الفضاء
العام والرأي العام تحوال إلى مجرد آليات لالستهالك، إننا نعيش ميالد التسليع السياسي واحتضار السياسة.
ويجدر التنبيه إلى ضرورة التمييز بين الفضاء العام كمقولة سياسية ليست بالضرورة مرتبطة بالمكان
المادي وإن التصقت به أحيانا كندوة في قاعة أو مجلس أو غيرهما، وبين األماكن العامة كمقولة اجتماعية
نقيضة للمجال الخاص الذي هو أيضا ليس بالضرورة مجال األسرة. لألماكن العمومية معاييرها وقوانينها
المنظمة للعالقات االجتماعية بين الناس. فيها ينبني المخيال الجمعي ويترجم إلى سلوكيات، ما هو مقبول وما
هو غير مقبول، وفيها يتغير هذا المخيال أيضا. وتنظم القوانين هذه األماكن العامة لتضمن حقوق وحريات
المواطنات والمواطنين، حيث ال يملك الفرد أو حتى الجماعة أية سلطة للتحكم في سيره وطريقة تسييره
خارج المؤسسات؛ كأن يتدخل مثال شخص في الشارع أو في حافلة النقل العمومي أو الشاطئ، ليُ َ نهي أحد
على هذا الفعل أو ذاك، واألمثلة كثيرة، فال حق له في ذلك في إطار الدولة المدنية. وهذا ما يميز المجتمعات
المدنية التي تحترم القانون، ودولة الحق والقانون الحامية له.
َ ُ ط الخطاب وفسد التواصل، أو عندما أصبح الفضاء العام وسيلة للتحكم:
تلخب
شكل التواصل كحاجة بشرية والخطاب كمضمون له، أساس ماهية وجود اإلنسان. وعليه فكل أشكال
السلطة توجد على مستوى هذين البعدين من إنسانية اإلنسان؛ إذ يمكن القول إن التطور التاريخي الذي
َ َبلي كما قال به ماك لوهان
حدث على هذين البعدين يمكن أن يلخص تاريخ تطور البشرية. فمن التواصل الق
Marshall Luhan.Mc ،المعتمد على السمع والخطاب الشفوي الذي ساد قبل اختراع الكتابة، إلى مرحلة
كوتنبرغ Gutenberg مع اآللة الطابعة التي أحدثت تحوالت كبيرة في تفكير اإلنسان وتمثالته وعالقاته
االجتماعية والسياسية، إلى العصر اإللكتروني مع الكهرباء وما استتبعه من وسائل لالتصال الجماهيري من
إذاعة وتلفزيون وكل التحوالت التي حدثت جراء ذلك على المستوى االقتصادي والسياسي واالجتماعي.
ُ ِحدث تحوالت جوهرية على كل األصعدة وبسرعة
لننتقل اليوم إلى عصر الرقمنة والذكاء االصطناعي التي ت
فائقة غير مسبوقة وبأحجام وطرائق تتعدى قدرة العقل البيولوجي على استيعابها.
ولما ضاق مفهوم الفضاء العام عن اتساع الواقع وتركيبه في كل أبعاده السياسية واالجتماعية مع نهاية
سبعينيات القرن الماضي، أصبح لزاما على منظريه وبالخصوص هابرماس االنفكاك من قيوده والبحث عن
نظرية إن لم تكن بديلة، فهي تشكل انفالتا من ورطته. فغير براديغم صناعة الرأي العام من الفضاء كمجال
مادي أوال مادي له حدوده االجتماعية والثقافية والمجالية، وله منطقه الخاص به، إلى نظرية التواصل
والخطاب التي تتعدى هذه الحدود. وإن كانا وثيقي الصلة بالفضاء العام/الفضاءات العامة. فلكل فضاء عام
ما خطابه الخاص وطرائق تواصله، غير أنه يمكن القول إن تواصل الفضاءات العامة داخليا أو فيما بينها،
ُ قبل الثورة الرقمية كان مختلفا بل وثابتا. فالمؤسسات المنتخبة والمؤسسات االستشارية ومنظمات الوساطة
9
من نقابات وأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني من جمعيات ومنظمات غير حكومية وتجمعات…إلخ، كلها
عبارة عن فضاءات عامة جاءت نتيجة التحوالت السياسية واالقتصادية واالجتماعية للمجتمعات الرأسمالية.
فالعالقة بين الدولة والمجتمع تتم عبر هذه المؤسسات التي تحولت إلى مؤسسات فئوية ذات مصالح مختلفة
أصبح من الصعب التوفيق بينها، وهو ما نتج عنه توترات مزمنة وفقدان الشعب الثقة في فعاليتها وتعبيرها
عن مصالحه العامة. إن استقاللية وبراءة الفضاءات العامة أصبحت محط تساؤل جراء تحكم السلطات
ِم على الفضاءات المعارضة المنتقدة.
ّ
ُعت
اإلدارية واالقتصادية على وسائل االتصال التي أصبحت ت
ِ إن التحوالت البنيوية التي حدثت على الفضاءات العامة تعود إلى نمو وعي قوى اجتماعية جديدة تعبر
عن نفسها وتتواصل مع محيطها السياسي، مثال ذلك النسائية واألقليات اللغوية والمدافعين عن الحريات
الدينية والجنسية وغيرها. وتداخل الحدود بين الثقافة العادية والثقافة العالمة )هابرماس(، والعالقة الجديدة
.
4
التي أصبحت تربط السياسة بالثقافة، وإن كانت عالقة متوترة، فعناصر الحكم قد تغيرت أيضا
5 الذي أعده بعد 30 سنة على إصداره كتاب »الفضاء العام« في نهاية القرن
يقول هابرماس في التقديم
الماضي: إن التحوالت البنيوية للفضاء العام جزء من مسار تحول الدولة واالقتصاد، فما عرفه الفضاء
العام من تحوالت نتاج طبيعي لتحوالت طبيعية شاملة، يتطلب انشغاال من لدن النخب لضمان خدمة الشعب
بطرائق أكثر إدماجا لكل القوى االجتماعية العادلة الناهضة.
ومن حيث إن الفضاء العام ليس عبارة عن مجموعة دردشة ولو كانت سياسية، بل فضاء منظم ومنتظم
ُحول نقدها لمصالح عامة
في الزمن، فإنه ال يكتسي صبغته السياسية إال عندما تصبح مكوناته مستعدة لت
َ ْعمل على إحداث التغييرات الضرورية المطلوبة للمجتمع.
وليس خاصة وقادرة على التأثير في الدولة لت
َّواصل العمومي بينه
فكلما نمت قدرة المجتمع على التنظيم بشكل ذاتي ومستقل، وعلى خلق أشكال للت
وبين الدولة التي بدورها وفي إطار تفاعلها معه، تعمل على خلق ميكانيزمات للتواصل مع هذه األشكال،
َّيا عبر تنطع
ْ ُشودان ال يتأت
كلما أصبحنا أمام مجتمع مدني ودولة اجتماعية. إن هذا المجتمع وهذه الدولة المن
َّى ذلك إال عبر عمل جماعي ينشد التغيير
َ فردي مهما كانت عدالة القضية التي يحملها الفرد، بل ال يتأت
العقالني من أجل العدالة والمساواة والحرية.
إن لهذه التحوالت تداعيات على الفضاء الخاص، أي الفضاء الحميمي؛ ألن طبيعة الدولة والعالقات
االقتصادية بينها وبين المجتمع لها تداعيات على العالقات االجتماعية عموما، وبين النساء والرجال على
4 نفس المرجع
.pp. publics espaces Les. 1992 Automne, 18. N. Quaderni: In. après ans 30″, public espace’L. “Jurgen Habermas 5
pdf.1992_Habermas/6061/0533/8814/files/socio/societe-sciences/ch.unige.www: //https/ 191- 161
10
الخصوص. فمع الدولة االجتماعية وتنظيم العمل والزمن االجتماعي ومركزة الصناعات واتساع المدن
…إلخ، كل هذا له تداعيات على الفرد والجماعة، على الفضاء العام واألماكن العمومية والفضاء الحميمي
لألسرة، على المخيال الفردي والجمعي. ومع الدينامية النسائية الجديدة، نالحظ أن مساحة الفضاء الخاص
ْ أصبحت تتقلص أكثر فأكثر بنقل إشكاالت العالقات االجتماعية بين النساء والرجال وقضايا األطفال
واألشخاص في وضعيات اإلعاقة وغيرهم، من الفضاء الخاص إلى عالم السياسة. فكلما حدث تحول في
وسائل العمل وأشكاله، تقلص زمن العمل وتوسع الزمن الحر، كلما ظهرت سلوكيات اجتماعية مختلفة
مناسبة لها من حيث العالقات االجتماعية في المجال الحميمي واالجتماعي والسياسي والثقافي.
6 قد تحرر اإلمكان للتنظيم الذاتي االجتماعي الموجود في الفضاء العام وما
فإذا كان كما يقول هابرماس
نتج عن هذا التوسع من تنوع في المطالبة بالحقوق وفي التواصل والمشاركة، فكيف سيصبح عليه الحال في
زمن الرقمنة الذي تغيرت معه تماما طبولوجيا الفضاء العام. ولكنه يعود للقول إن الجماهير الفقيرة اقتصاديا
إذا لم تتوفر لها الشروط المادية الضرورية الستقاللها االجتماعي، فال يمكننا أن ننتظر منها المساهمة في
تكوين الرأي واإلرادة بشكل تلقائي؛ بمعنى آخر إن الجماهير الفقيرة ال سلطة لها على حياتها ال العامة
وال الخاصة، إال ما تضمنه قوانين الدولة االجتماعية؛ ألنها ال تتوفر على الشروط المادية الستقاللها. وال
ً بما توفره لها من شروط
ُ اجتماعية
يمكن ضمان مشاركتها بمحض إرادتها المستقلة إال عندما تكون الدولة
ُ ِّوسع المراقبة الديمقراطية لتشمل كل السيرورة
ً ألنها تجيب عن حاجياتها، وت
العيش الكريم، وديمقراطية
االقتصادية. إن ضمان المساواة والمشاركة في الحياة االقتصادية واالجتماعية من لدن الدولة من جهة،
ويقظة القوى المجتمعية من جهة أخرى، هو شرط أساسي لبناء ضمانات الوجود المستقل للفضاءات العامة،
َ حتى يتسنى تنظيم عملية اإلنتاج الخطابي للرأي واإلرادة بشكل حر وتلقائي. ويعني هذا الجواب عن كيفية
حل إشكالية تركيب المصالح الفئوية الناشئة لتتحول إلى مصالح عامة مجتمعية.
َ ِاذيتهما التي تعطي
يتحدث هابرماس عن نظرية النقاش وعن الفضاء العام المنظم وغير المنظم وعن نف
معنى للديمقراطية االجتماعية الجماهيرية. فما هي التحوالت التي قد تحدث لهذه المفاهيم في العالم الرقمي؟
وما هي العناصر التي ستمكننا من الحكم عليها؟ هل موضوع النقاش وأهميته بالنسبة إلى المجتمع ككل؟ أو
المجهود المبذول إليجاد الحلول؟ أو منظومة القيم التي يتأسس عليها هذا النقاش؟ وإذا كان بديهيا أن النقاشات
ال تحكم ولكنها تؤثر في السلطة السياسية واالقتصادية، وأن ذلك ال يتأتى في غياب حرية التعبير والرأي
التي يتدرب عليها المجتمع لكي يصبح مؤثرا، وتتدرب عليها الدولة لتصبح أكثر تفاعال معها. فهل لمجتمعنا
ُ ما يكفي من د ْربة النقاش لبناء الفضاء العام والمشاركة فيه بفعالية وبشكل تلقائي في الواقع االفتراضي؟
6 نفس المرجع، ص 171
11
هابرماس لم يحلل بشكل مستفيض الفضاء العام على ضوء الوسائط اإللكترونية والرقمية. يقول: »…
إن الحدود االجتماعية التي شكلت اإلحداثيات األساسية للمكان والزمان التاريخيين للعالم المعيش، هي التي
ً اهتزت مع الوسائط اإللكترونية« بل »لقد جعلتنا العديد من سمات »عصرنا المعلوماتي« نشبه أكثر أشكاال
7
ً بدائية: مجتمع الصيد والجمع.«
ً وسياسية
اجتماعية
َ فمتى يكون العالم الرقمي فضاء عاما سْيبرانيا بمعناه السياسي، ومتى يكون مجرد أمكنة رقمية عمومية
في بعدها االجتماعي؟ وفي هذه الحالة ما هي المعايير التي تنظم إنتاج الخطاب والتواصل في كلتا الحالتين؟
أم لم تعد أية إمكانية لفضاءات عمومية سياسية مستقلة قادرة على التأثير وفعل التغيير؟ أم إن الديمقراطية
والفضاءات المفضية إليها في ورطة كبيرة لم تعد مجدية الرتوشات التي يتم القيام بها كلما ابتعدت السياسة
عن خدمة المواطنات والمواطنين.
العامل السيرباين، أين نحن!
قبل الخوض في حيثيات الجواب عن هذا السؤال، وتحليل اآلثار االجتماعية لوسائل االتصال واإلنترنت
على التحوالت البنيوية للفضاء العام، ال بد من القيام بتذكير ألهم ما ورد سابقا في مقومات الفضاء العام
والخطاب والتواصل وآثار التحوالت التي عرفتها على العالقات االجتماعية، مع التحوالت التي حدثت على
الدولة واالقتصاد. إن الفضاء العام فضاء سياسي مستقل، حيث يتم إنتاج الخطاب بطرائق عقالنية وبإرادة
حرة ونزيهة. وفي حالة غياب هذين الشرطين، يصبح هذا الفضاء تابعا وفاسدا وال يفضي إلى تدعيم دولة
ً أن بناء النقاش ال يتم إال على أسس الجدل
الحق والقانون الديمقراطية االجتماعية. ويعني هذا ضرورة
االستداللي لإلجابة عن األسئلة األخالقية والعملية، المبني على المعرفة العلمية وليس على سلطة خارجة
عن إرادة اإلنسان كيفما كانت طبيعتها.
ِف الفضاء السيبراني والحالة هذه؟ وهل الفضاء السيبراني عام أم مجرد أمكنة عمومية؟
ُ ّعر
فكيف سن
وهل تتوفر له االستقاللية كشرط للوجود، في ظل الفيودالية الرقمية )Durand Cédric )التي يشكل فيها
عمالقة الويب الذين ال حدود لهم سادتها؟ وأي سلطة للدولة الوطنية عليه؟ وأية إمكانية للسلطة السيبرانية
على التحكم وتوجيه الرأي العام؟ بمعنى آخر، ما هي مساحة الحرية واالستقاللية في العالم السيبراني؟ هل
هي حرية حقيقية أم وهمية افتراضية؟ وهل هي استقاللية حقيقية أم توجيه ال يُ َدرك؟ وما هي أشكال السلطة
السيبرانية؟ وكيف تمارس؟ وكيف نجعل من الفضاء السيبراني فرصة لخدمة التقدم والمساواة بين الجنسين؟
والبد أيضا أن نقف على سالسل القيمة الرقمية حتى نعرف واقع الحال، وأين يمكن أن يكون لنا فعل،
وأين ال يمكننا، وأين يمكننا أن نعيش الواقع االفتراضي، وأين يجب أن نتوقف ونمتنع عن بيع أنفسنا…
7 نفس المرجع، ص. 187
12
إن العالم الرقمي اليوم يعرف توصيفات عدة، فهناك من يعتبره أرضا تزخر بثروات طبيعية أي الداتا
الشخصية يجب احتاللها الستغالل هذه المادة الخام االقتصاد الجديد؛ ومن يعتبره مجاال جغرافيا واجتماعيا
وجب التعامل معه بمقاربات تقطع مع براديغمات السابقة التي كانت تتناسب مع زمن الحداثة. ومن يعتبره
جنات للحرية…إلخ.
إننا مجرد كومبارس رقمي…
ْ ِفالتا من كل محاوالت الرقابة والتحكم التي تمارس
ِر الفضاء السيبراني في بداية ميالده مالذا وان
ُب
اعت
في العالم الفيزيائي المادي. واعتبر مجاال خارجا عن أية سلطة نظرا لطبيعة تدفق المعلومة وسيولتها، والتي
ِقد أنها غير قابلة للحجز، بل هناك من دعا إلى استقالله عن أية دولة أو أية سلطة أخرى إلى درجة أن
ُ
اعت
هناك من أطلق إعالن استقالل الفضاء السيبراني سنة 1995 بدافوس. وتعتبره اليوم السلطات وبالخصوص
ُ َ رق مراقبته والتحكم فيه. وهذه
ًّ في البلدان غير الديمقراطية عدوا يهدد سالمتها، وهي في بحث مستمر عن ط
ِما كانت له من إيجابيات بإعطاء دفعة قوية للنقاش العام، بل أعطت حياة للمشاركة المواطنة،
فعال حقائق ل
ِ كالربيع العربي والحراكات االجتماعية في العديد من البلدان، وحركة المقاطعة الشعبية المغربية سنة 2018
َ على سبيل المثال ال الحصر التي لم تتعد الفضاء الرقمي، ولكن آثارها كانت شديدة البأس على رقم معامالت
ً الشركات التي تمت الدعوة لمقاطعة منتجاتها. لكن ماذا لو غدا أردنا أن نقاطع شبكة اجتماعية ما، على سبيل
المثال فيسبوك، ألسباب عديدة، فهل سنكون أحرارا في ذلك؟ هل سيتركنا زوكربيرغ طليقي األنامل دون
فعل أي شيء وهو يرى شركته مهددة باإلفالس؟ الجواب بالتأكيد ال، سوف يقوم بكل ما تتيحه له التكنولوجيا
ِم على هذا العمل.
ّ
ليُعت
فمن يتحكم في الفضاء السيبراني؟ إذا كانت بعض االقتصادات قد تتحكم فيه لما تملكه من سلطة على
جميع سالسل القيمة الرقمية، على المستوى العلمي والتكنولوجي والصناعي واللوجستيك وأيضا النفوذ
الجيوسياسي، فهذه السلطة تصبح رمادية على مستوى إنتاج الداتا التي تشكل طاقة الفضاء الرقمي ومنتوجه.
وقد ال تتحكم بالمطلق في تدفق الكم الهائل للمعطيات التي ال تتوقف عن التزايد. فإذا كان موضوع علم هللا
بالكون محط نقاش بل وخالف بين الفالسفة، أرسطو وابن رشد وغيرهما، بين من يقول بعلم هللا بالتفاصيل،
ومن ينأى به منها، فماذا عسانا أن نقول عن اآللهة السيبرانية، هل تعلم بتفاصيل الكون الرقمي؟ نعم بإمكانها
ُ معرفة التفاصيل، فهي م َّخز ً نة ولها من الذكاءات الخوارزمية التي تزداد في كل لحظة ذكاء ما يمكنها من
ذلك، غير أن هناك دائما هامشا )قد يتسع أو يضيق( قد »ينفلت« من سلطتها الرقابية، على سبيل المثال
البلوكتشاين Blockchain أي »سلسلة الكتل«، التي تعمل بطريقة ال تخضع لسلطة مركزية وتخزن
ِموازاة لها
البيانات في شكل كتل موزعة وغير قابلة للتعديل. فبقدر ما تتطور تكنولوجيا الرقميات تتطور ب
تكنولوجيا مقاومة رقابتها.
13
إن العالم اليوم يعرف ميالد أقطاب جيوسياسية رقمية، اعتمادا على ثالثة مؤشرات أساسية لها عالقة
بحماية المواطنات والمواطنين والمؤسسات الحكومية والخاصة؛ أوال. مراكز الداتا، حيث يتم تخزين وحفظ
ْ واستعمال المعطيات. حسب ما نشرته ستاتيستا Statista عن كالود سين scene Cloud لسنة 2021 ،
تستحوذ الواليات المتحدة األمريكية على 33 بالمائة منها، والصين على 5 بالمائة، ألمانيا والمملكة المتحدة
لكل واحدة 6 بالمائة؛ 4 بالمائة لكندا، و3 ْ بالمائة لكل من هولندا وأستراليا وفرنسا. وهكذا فأمريكا وحلفاؤها
يتحكمون في معظم الداتا الدولية، ثانيا. الكابالت التحت بحرية، والتي تمر عبرها ما يقارب 99 بالمائة من
المعطيات، فالكافام GAFAM تتحكم في العديد منها. وبالنسبة إلى الدول التي تتصدرها أمريكا، اليابان،
فرنسا، وهولندا، مع تسجيل انخراط قوي للصين في إطار مشروعها الكوكبي »طريق الحزام والحرير«
َقانون السوق النيوليبرالي هو السائد،
الذي يشمل مخطط طريق الحرير الرقمي، ثالثا. محركات البحث، ف
استحواذ مطلق لغوغل وعجز تام للمحركات األخرى الختراق هذه السوق. ما عدا الصين حيث غوغل
ممنوع ومقابله هناك هو بايدو Baidu األكثر استعماال. وبالنسبة إلى روسيا، فهي ال تمنع المحركات
األجنبية ولكن لها محركها الخاص بها، وهو ياندكس Yandex ،حيث يستحوذ على 52 بالمائة مقابل 42
بالمائة لغوغل.
َوفر ثالثة مقومات قبل أي محاولة للتفكير في متطلبات بناء الفضاء العام الرقمي. السلطة
َت
فال بد أن ت
على البنية التحتية لإلنترنت الصلبة من معدات ضخمة تحتاج لالستثمارات حكومية ضخمة أيضا، من أقمار
صناعية وشبكات أرضية ومن كابالت عابرة للبحار وتجهيزات وخطط اإلعداد الرقمي الوطنية وغيرها
من األجهزة حتى أصغرها والمستعملة من طرف المستهلك النهائي كان شخصية معنوية أو مادية )وهو ما
يعرف بالبعد الفيزيائي(. وكل هذا يحتاج ألموال ضخمة، فهي ليست مجانية على اإلطالق. والسلطة على
المحركات والشبكات والتطبيقات وتدبير المضامين والمخالفات والمجاالت )البعد المنطقي( وهذه تتحكم في
معظمها اآلن شركات خاصة عمالقة )كافام GAFAM ،)هي أيضا تحتاج لالستثمارات ضخمة للتدبير
والتطوير، وهي أيضا ليست مجانية. والسلطة على كل ما له داللة بالنسبة إلى الفرد أو جماعة من شبكات
التواصل االجتماعي والمواقع المتخصصة علمية كانت أو أدبية فنية، …أي تدفق المعنى )البعد الداللي أو
8 .هذا البعد األخير هو مربط الفرس، حيث تخاض المعارك بكل أصنافها السياسية واالجتماعية
المعرفي(
واالقتصادية والثقافية والحضارية للتأثير في اإلنسان.
إننا من سوء التدبير حتى ال أقول من سوء الحظ، ال نتحكم في أي من هذه األبعاد الثالثة. إننا مجرد
مستهلكين منشطين ومؤثثين له. بعبارة أخرى، إننا مجرد كومبارس رقمي! والحالة هذه ال نستطيع ضمان
استقاللية النقاش العمومي في ظل غياب دعائم السيادة الرقمية. فكل نقاش »عمومي« افتراضي وجب
,« informationnelle lutte la de enjeux nouveaux les: influence-Cyber, « Tenenbaum Élie et Rochegonde de Laure 8
_derochegonde/files/atoms/files/default/sites/org.ifri.www://https ص 22.2021 mars, Ifri, 104° n, stratégique Focus
pdf.2021_cyberinfluence_tenenbaum
14
الشك في مصداقيته طالما لم تتخذ فيه شروط االستقاللية الرقمية. فالعالقة بين المنصات العنكبوتية الكبرى
ّ والمخابرات األمريكية كما كشف عنها إدوارد سنودن لم تعد سرا على أحد، ولذلك ما فتئت دول كالصين
.
9
وروسيا تعمل من أجل سيادتها الرقمية
إن تقنيات وطرائق التحكم في المعنى المتدفق على النيت جد متطورة ومعروفة لدى المتخصصين
والمتمرسين، إما بالتعتيم على غير المرغوب فيه، أو اإلبراز المفرط لما يراد التأثير به، أو التأجيج
ْ َمتة وهمية bots ،وtrolling أو
ُ واالستفزاز وغيرها كثير. وتسهل قرصنة المعطيات وإنشاء حسابات مأت
َّصيد االستفزازي إلغراق النقاش في الوحل االفتراضي واستفزاز المتحاورين عبر شخصنة الصراع…
الت
ويؤدي كل هذا إلى خلق ديناميات تعطي االنطباع على أنها حركات شعبية تعرف في المعجم الرقمي
بحركات العشب االصطناعي astroturfing نسبة لشركة )AstroTurf .)هذه الظاهرة قد تفسد الرأي العام
بتوجيهه، حيث يرغب الطرف المتحكم في العملية الموجود خلف آلة النقر10 .ومن األحداث التي أصبحت
معروفة اليوم للتدخل الخارجي على المستوى الرقمي، نذكر االنتخابات األمريكية )201 ،)والفرنسية
)2017 ،)واستفتاء خروج بريطانيا من االتحاد األوروبي )2016 ،)وحركة االستقالل الكتاالنية )2017)11 .
وال ندري بعد ما هو حجم هذا التدخل المتخفي في استحقاقات 2021 المغربية.
المستعمرات الرقمية
تضم الشبكة العنكبوتية عوالم رقمية وليس عالما واحدا، وإن بدا أنه كذلك. وأن هذه العوالم ليست عبارة
ِيات محددة المعالم. وإن اشتركت في اللغة والدين والثقافة واالجتماع واالقتصاد بل
َ عن كيانات متراصة وهو
ُ والجغرافيا، فال وجود للجماعة البشرية الرقمية، فقط كيانات فردية مشتتة، وال وجود لمجتمعات رقمية في
َ ظل هذا االنشطار االجتماعي. وما يفرقهم ايضا هو تمثالتهم لبعضهم البعض التي ي ْمتحونها من محيطاتهم
ِ ْ يت. وإن كان ولوج الفرد الرقمي للمعطيات الرقمية من المفترض متساويا؛ أي إن
ّ
المادية الخارجة عن الن
كل الشروط الرقمية متوفرة لذلك، فإن الفهم ال يتم بنفس الطريقة، بل قد يكون الفهم متناقضا؛ ألن الصور
ُ والخطاب والرموز بشكل عام وإن كانت واحدة، فالم َ حتويات التي يمأل بها كل فرد الحاويات الموجودة أمامه
ليست واحدة، وهذا ما أصبحنا نعيشه في الواقع غير الرقمي من فرط االنشطار الذي أصاب المجتمعات
اإللكترونية )منذ اكتشاف الكهرباء( ألزيد من نصف قرن.
غير أن ما يُ ِّوحد بين البشر الرقمي هو كونهم عبارة عن مادة خام معلوماتية يزودون بها البيغ داتا، مما
َ يجعلهم عبارة عن مناجم لموارد رقمية أساسية تحرك االقتصاد الرقمي الذي تتحكم فيه أوليغارشية عابرة
9 نفس المرجع، ص.ص. 23/24
10 نفس المرجع، ص. 25
11 نفس المرجع، ص. 49
15
للقارات وغير مراقبة بما يكفي، والتي التزال منفلتة من رقابة الدولة الوطنية والقانون الدولي. وفي هذا
ُّ األمر تفاوت بين الدول. فالدول القوية اقتصاديا وتكنولوجيا سوف تتغلب على هذا االستغالل البشع، والدول
المتخلفة التي سوف لن تقدر على مواجهة هؤالء العمالقة لحماية اقتصاداتها ومواطنيها، وهو ما يجعلها
مستعمرات القرن الواحد والعشرين، وعلى كل مستويات سالسل القيمة الرقمية التي تم الكالم عنها فيما
سبق، يقول سيدريك:
»إن استعمار هذه األراضي الجديدة الغنية بالبيانات ينطلق من أدوات تقنية وقانونية متنوعة للغاية.
لكن هذا االستعمار ينطوي في جميع الحاالت على شكل من أشكال التملك الترابي: أي عبر زرع محطات
حيث من الممكن استخراج البيانات. هذه هي اللحظة االستخراجية في تكوين البيانات الضخمة، لحظة التقاط
المصادر.«12
يقوم سيدريك بمحاكاة بين ما تم من استنزاف للموارد الطبيعية إبان االستعمار خالل القرن الماضي
لتشييد االقتصاد الرأسمالي، وما يحدث اليوم من استنزاف للداتا لبناء االقتصاد الرقمي. وهكذا تصبح كل
ِ المجتمعات بغض النظر عن انتماءاتها لبُلدان متقدمة أو نامية أو فقيرة، عرضة لالستعمار الرقمي بدون
استثناء. فإذا كانت البلدان غير الصناعية قد عرفت في السابق هذا االستنزاف دون أن تعرف تصنيعا يذكر،
ِه له سيدريك هو أن العالم
ِ في مقابل بلدان مستعم َ رة استغلت هذه الموارد لتطوير صناعاتها، فإن ما لم ينتب
ليس مجردا تماما من واقعيته وارتباطاته بالواقع الخارج عن الشبكة العنكبوتية، إذ هناك من البلدان ومن
الطبقات االجتماعية من سوف يعاني من هذا االستنزاف الجديد بطريقة لن تعرفها المجتمعات المتقدمة، غير
أن هذا االستنزاف للبيانات سوف يعمق أيضا الفوارق الطبقية بالبلدان المتقدمة.
إذا كانت المرحلة الكولونيالية قد تميزت بالبحث الدائم للدول الصناعية عن مجاالت ترابية غنية من
حيث الموارد الطبيعية، فإن الكولونيالية الجديدة المتمثلة في الشركات العمالقة للرقميات وبعض الدول التي
طورت الصناعية الرقمية، سوف لن تتحكم فقط في مصادر المعطيات ولكن في الصناعة الرقمية برمتها.
ٌ، بل سوف تزداد إذعانا للسلطة الرقمية المركبة؛ ألن كل إمكاناتها في
وستبقى البلدان المتأخرة متأخرة
المقاومة سوف تكون معروفة ومكشوفة للقوى الجديدة ألنها سوف تتحكم في كل شاذة وفاذة تخص الشعوب.
ْشطة
ن
َ
فإذا كانت العمليات التي تقوم بها هذه الشركات ليس همها األول تعزيز قوتها على نشاط ما أو تجميع أل
ما، بل كيف تسيطر على مصادر المعطيات، فألنها تعرف قيمتها اآلنية والمتوسطة والبعيدة المدى. وفي هذا
ص. 82) pdf (2020, France, Zones. éd, numérique économie’l de Critique, féodalisme-Techno, Cédric, Durand 12
الترجمة التي قمت بها لهذا النص:
très juridiques et techniques dispositifs de procède données en riches terres nouvelles ces de colonisation La“
bornes des planter de agit’s il: territoriale appropriation’d forme une implique elle, cas les tous dans, mais, divers
des celui, data big des formation la dans extractiviste moment le est’C. données des puiser de possible est il où là
“.sources des captages
16
تتنافس الشركات والدول من أجل التحكم في فضاءات مالحظة األنشطة البشرية والتقاط المعطيات الناتجة
ُّ لم والتبعية من أجل استعادة حريتها واستقالليتها ومن
عنها )سيدريك دوران(، غير أن مقاومة الشعوب للظ
أجل تقدمها سوف تبتكر لها األشكال المناسبة كما تم ذلك في الربيع العربي والمغاربي وحركة المقاطعة
وغيرها من الحراكات االجتماعية األخرى.
»عامل/عامالت النقر«، عبودية جديدة
ُص ِّم ْمت بعض تطبيقات لشراء المعطيات واآلراء الشخصية عن طريق ربط عالقة المادية مع من يتفق
على هذا النوع من العمل؛ أي بدون عقد عمل ومن أي نوع، تؤدي بموجبها إما نقدا أو استهالكا لبعض
ْرة« كما
َّق
منتجاتها أو منتجات شركائها، مقابل ما تحصل عليه من هؤالء العمال الجدد، إنهم »عمال الن
يطلق عليهم. على سبيل المثال، تطبيق عملة العرق sweatcoin13 يؤدي حسب النشاط الجسماني، ولذلك
يسارع الناس إللصاق الهاتف بأحد األطراف السفلى منذ خروجهم من السرير. لكن ما سيتم الحصول عليه
من »قيمة« ال تدفع نقدا، ولكن تستهلك في اقتناء بعض المنتجات من محالت لها عالقة بالتطبيق، ومنها
من تمكن »الزبناء« من »مبالغ مالية« عندما يصلون لحد كبير من الحركة؛ أي عندما تبلغ قيمة ما قدمه
»الزبون« تعادل ما تقدمه الشركة أو أكثر. تطبيق »معطياتك« TaData( المرخص له من لدن اللجنة
الوطنية المكلفة باإلعالميات والحريات الفرنسية( يقضي بملء استمارات حول البيانات الشخصية وتضع
كشعار لها »استعد/استعيدي السيطرة على بياناتك الشخصية«… وغيرهما كثير. هذه التطبيقات تستغل
شعارات بيئية وأخرى تتعلق باألخالق كأن تعلن صراحة شراء الداتا على عكس ما يقوم به فايسبوك الشبكات
المحسوبة على زوكربيرج Zuckerberg Mark ،أو غوغل، آبّل وغيرهم. يقول أحد المدافعين على هذا
النموذج التجاري للمعطيات الشخصية »يبدو أنه من غير المعقول أن ال يُدفع ثمن البيانات الشخصية التي
تشكل المادة الخام لالقتصاد.«14
إن الشبكة العنكبوتية بكل أشكال منصاتها باتت عبارة عن محطات القطة لتفاصيل أنشطة الناس
َ ِ ستعملها
ُ ّ بضِ ُع حياة الناس وت
اليومية، أي بورنات bornes التقاط الداتا. إنها استراتيجيات غير معهودة ت
ِ القوى االستعمارية الجديدة خلسة أو عالنية، تماما كما فعلت الكلونيالية إبان القرن الماضي. وال يتعلق
ُ ِّجمعها بشكل جذموري )rhizomique)؛ أي في شكل شبكات غير
األمر بمعطيات مشتتة، بل إن البيغ داتا ت
خطية، في كل االتجاهات. إن تكنولوجيا البيغ داتا data big تعمل خالفا لما يحدث في تدبير المعطيات
غير الرقمي، على تجميع المعطيات بالنسبة إلى الفرد أو الجماعة. فإذا كانت الملفات ال تتصل فيما بينها في
/weward-tadata-donnees-vendre-etudiant/smart-et-big-data/suivre-a-tech/eu.ladn.www://https 13
personnellesdonnees-leurs-monnayer-de-jeunes-aux-permet-qui-application-l-tadata/economie/fr.franceinter.www://https 14
17
النموذج الرأسمالي السابق، الصحة مثال والوضعية الضريبية والبنكية والعائلية واالجتماعية والسياسية…،
ْرة واحدة.
َنق
ِ
فإنها اليوم قابلة للتجميع بل ومترابطة، وسوف تصبح متاحة مجتمعة وب
وهذا التجميع ال يكون محايدا كما يزعم التكنوقراطيون، بل على العكس من ذلك؛ ألن تصميم
ٌ للتمثالت
الخوارزميات ال يتم إال على تصور سيناريوهات مبنية على فرضيات. ومجال الفرضيات مجال
بامتياز)سيدريك(. فخلف كل نقرة هناك تصور لإلنسان والحياة والعالقات االجتماعية يجدر التمكن من
تحليله على أساس أن هناك سلطة ما تمارس على الناقر يجب إخراجها من الجحر لتفكيكها ومقاومتها. فكل
َ ما هو معياري أو قابل للمْع ُّ يرة سياسي؛ بمعنى أن تصميم أي خوارزمي ينطلق من فرضية أو مجموعة
فرضيات. فمثال ما هي الفرضية التي عليها انبنى تصميم خوارزمي التعليق على مضمون ما بـ »أحب/
ال أحب«؟ هي أن الناس ال يمكن أن يوجدوا إال عبر هاتين الحالتين وال وجود لمواقف أخرى، وهي كثيرة
وممكنة. وإن كانت هذه الفرضيات في تطور مستمر مع الممارسة وتدفق المعطيات ذات الصلة برغبات
َ الناس، فإن هذا لن يزيل عنها أنها وفي كل مرة تبنى على اختيارات ليست بالبريئة. اختيارات تعكس تمثالت
تختفي وراءها أشكال من السلطة. ستكون لها آثار على طريقة تفكيرنا. قد يفقد العقل البشري بعض خاصياته
األساسية المتمثلة في قدرته على التنبؤ بما سيفعله أو يفكر فيه أو ال يفكر فيه، ويحوله إلى ماكينة فحسب؛
وعلى العالقات االجتماعية على أساس النوع أو الطبقة أو اإلثنية والمجالية وغيرها؛ إذ سوف يعمق الفوارق
ِق كل الخوارزميات والذكاء
ُعب
االجتماعية ألن كل عالقات السلطة غير المتكافئة وكل أشكال التمييز سوف ت
االصطناعي، بل وسوف تعرف انتشارا أوسع وأضرارا أكبر مما نتصور. فأثر تعبير شخص عن سلوك
ِيزي مبني على الجنس في الشارع مثال، أقل ضررا من نشره على الفيسبوك أو الواتسب لسرعة وسهولة
َمي
ت
انتشاره وسط فئات واسعة جدا.
إن طبيعة اشتغال البيغ داتا تخضع لقانون بيولوجي، كلما تم التحكم في الداتا، كلما زاد التحكم في
ُ رغبات الناس، كلما زاد استهالكهم للشبكة العنكبوتية وزادت سيولة م ِ عطياتهم وتدفقها. هي دورة ال انفكاك
منها إال إذا تم الوعي بها. إنه شكل جديد من أشكال التحكم االجتماعي والسياسي واالقتصادي.
»التأثري« العنكبويت، تعبري عن أزمة الفضاء العام وإفساد للرأي العام
ِر نحو »جماعة« نكرة اللهم ما نسقطه
ّ
ُ تحول النقاش العام إلى مجرد منولوغ موجه من فرد يسمى مؤث
عليها من تمثالت على أنها الشعب، وعلى أن هذا األخير في حاجة لمن يقول له »الحقيقة«. مستهلكة لخطاب
اإلثارة وليس التأثير، يستهدف أساسا رفع عدد المشاهدات للظفر باهتمام شركات اإلشهار. وال مجال في هذا
َّلْيكات أو التعاليق العاطفية.
ُهَّم بعض ال
َّ
النوع من التواصل من تفاعل مع الخطاب الل
18
إن هذا النوع من التواصل ليس هدفه األول بناء الرأي العام، وحتى وإن كان كذلك، فإن شروط تحققه
غائبة في هذا الشكل من العمل. ولذلك فهم يعتمدون أسلوب خاصا إلثارة مشاهدة أكبر عدد من الناس،
وغالبا ما يركزون على األشخاص فتصبح السياسة عندهم حاالت فردية وليس مؤسسية تذكي العداء وتؤجج
الغضب غير العقالنيين. وهذا ما يزيد في تشوه النقاش العمومي ويعمق أزمة الفضاء العام ويساهم في تنمية
الحقد وليس النقد من أجل التغيير.
ليتحول االتصال واإلعالم أكثر من أي وقت مضى إلى سوق للمتاجرة، وهو ما يزيد في إفساد النقاش
العمومي والرأي العام. ويعمل على خلق »شخصيات« مجردة من أية مشروعية علمية أو مدنية أو شعبية،
ُ َّرهات الدردشات، وعوض أن
َّ ُت النقاش العمومي ليتالشى في ت
َ فقط يشتهرون بنقدهم لهذا أو تلك. فيتفت
يتحول إلى رأي عام نقدي عقالني يهدف الى التغيير، نجده ينشر الحقد والكراهية لألفراد. وفي هذا خطورة
على الديمقراطية؛ ألنه يخلق شروط للمزيد من تحكم السلطة على الحياة السياسية لتتحول إلى سلطة مطلقة.
ودخلت سلطة المال على الخط لتعطي دفعة لهذا األسلوب من العمل »السياسي« لتحول االنتخابات التي
تشكل عماد السلطة الديمقراطية، إلى سوق يتحكم فيها أصحاب الرأسمال. إنها الضربة القاضية ألية إمكانية
الستقاللية الرأي العام.
إن اإلرادة المستقلة في بلورة الرأي العام ال تنشأ خارج الفضاء العام. وكون هذا الفضاء تحول إلى
مجرد حلبة صراع بين بطل أو حتى عدة أبطال أمام جمهور ليس له أية إمكانية للنقد، فهذا يجعل من إعادة
َ ُّون هذه اإلرادة مهمة أولوية إلعادة الروح للديمقراطية، وإن كانت تبدو مهمة صعبة للغاية.
َك
بناء شروط ت
الرقمنة حتمية تاريخية والركون إليها اختيار سيايس
إن أولى األسئلة التي يجب طرحها على أنفسنا من زاوية االنشغال بالتحديث والديمقراطية والمساواة
َ بين النساء والرجال، ضد من سنخوض الصراع اليوم؟ وكيف سن ُ خوضه؟ ومن هم حلفاؤنا في ذلك؟ وهل
ستكون هناك قطيعة مع معركة التحديث قبل الرقمنة؟ من يعتقد أنه سيجد أجوبة شافية لهذه األسئلة هاهنا،
فمعنى ذلك أنها/أنه ال يقدر صعوبة المرحلة وعدم وضوح مآالتها، ال على مستوى الممارسة وال على
ُ مستوى التفكير. لكنني في هذه المحاولة أتوسل منهج بعض مفكري ما يطلق عليه بما بعد الحداثة لمقاربة
ْدي الذي ال تجتمع السلطة عنده في مؤسسة واحدة، بل موجودة
ُكول
العالقات االجتماعية الرقمية، المنهج الف
في كل مكان وزمان لتجد تجلياتها بوضوح في الخطاب الذي يشكل الدعامة األساسية للعالم الرقمي. والمنهج
النسائي الذي وظف أهم مبدأ للفكر الحداثي وهو النقد االنعكاسي الذي ينطلق من أن أي إنتاج فكري ليس
َ محايدا وجب تفكيكه للوقوف على زوايا الظالم المتربصة فيه. وحدوي في هذا هو خيط ضوء الحداثة الذي
ُه؛ أي ماهيته.
ُتونات
تشكل المساواة عامة والمساواة بين النساء والرجال ف
19
أعود للتذكير بأهم تحديات العالم الرقمي أي مجاالت السلطة الرقمية، والتي تم التفصيل فيها أعاله.
ِل علينا معرفة شبكة عالقات السلطة ومن يمارسها ومن يخضع لها
إن مفهوم سالسل القيمة الرقمية قد يُ ّسه
وكيف يمكن مقاومتها.
ترسو السلطة الرقمية على أربع سالسل كبرى أساسية. أوال- ذات بعد جيوسياسي يتصل بالسلطة على
البنية التحتية الصلبة، من أقمار صناعية وشبكات أرضية ومن كابالت عابرة للبحار وتجهيزات. يكون
ِدول،
الصراع فيها بين الكيانات القوية اقتصاديا، كالواليات المتحدة األمريكية والصين؛ وال مجال فيها ل
ْريقيا وأمريكا الالتينية. والعمل على هذا المستوى في كل األحوال ال يمكن
ِقارات ال سلطة لها، كإف
بل ول
أن تقوم به إال الدول في إطار تحالفات جهوية أو قارية لخوض معركته؛ ثانيا- ذات بعد وطني يتجلى في
السلطة على الصناعة الرقمية، وتعني كل مستلزمات العصر الرقمي من االقتصاد إلى المجتمع واالجتماع
والسياسة والثقافة والبيئة. وهذه أيضا تتحكم في معظمها الدول الصناعية وبعض الدول الصاعدة، وال عذر
للدول الوطنية كالمغرب أال تخوض غمارها إن هي تهدف إلى حماية أمنها االجتماعي والسيادي؛ ثالثا- ذات
ِيت؛
ّ
بعد »ناعم« تتصل فيه المعرفة الرقمية الناتجة عن البحث العلمي، بالتطبيق الذي يزرع الحياة على الن
أي السلطة على البحث العلمي من جهة، ومن جهة أخرى على البنية الناعمة التي تجعل الحياة الرقمية
ممكنة، من محركات وشبكات وتدبير المضامين، مجال التحكم فيها ليس للدولة الوطنية، بل ألفراد عبر
شركات خاصة عمالقة باستثناء التجربة الصينية؛ رابعا- بُعد ناعم جماهري من شبكات التواصل االجتماعي
والمواقع المتخصصة علمية كانت أو أدبية فنية…إلخ. إننا أمام أربع سالسل إلنتاج القيمة الرقمية التي ال
نتقاسمها بشكل عادل ولن نستفيد منها بدون مقاومة شديدة لجعلها في خدمة اإلنسانية المتعارف عليها حتى
اآلن. ففي كل زاوية من هذه األبعاد هناك إمكان للعمل من أجل الفعل السياسي أو العلمي التكنولوجي أو
الفكري أو الحقوقي المدني النسائي.
يشكل بناء المجتمعات والدول الرقمية وتقدمها وأمنها أكبر التحديات التي تواجه العلوم والسياسة
واالجتماع واالقتصاد. وألجل ذلك أصبح مفهوم السيادة واألمن حاضرين في النقاش العمومي. وفي هذه
َّ الحالة، ماذا تعني السيادة واألمن الر ِقميان؟ ففي مجال الرقمنة، يبدو أن السيادة كما نفهمها في عصر ما
َّ قبل الرقمنة، بمعناها المبني على الحدود الوطنية لم تعد ممكنة. فالرقمنة قد أطاحت بما تركته العولمة
النيوليبرالية من حدود. فال يمكن التفكير في تحديات السيادة واألمن داخل الحدود الوطنية؛ ألن الدولة
الوطنية غير قادرة على ذلك لما يتطلبه األمر من استثمارات باهظة الكلفة، ولذلك تبقى التكتالت الجهوية أو
القارية الشكل الممكن للعمل من أجل السيادة الرقمية.
الدول اليوم منشغلة بتحديات تخزين وحماية معطياتها درءا لما قد تتعرض له من محاوالت استيالء قد
ُ تضر بالمصالح الوطنية غدا. في هذا اإلطار قام المغرب بتجربة إنشاء مركز للمعطيات Center Data
20
بجامعة محمد السادس بوليتكنيك، والتي تعتبر نقطة في بحر 8100 مركز للمعطيات في العالم حسب منصة
َرنسا وحدها تتوفر على 215 مركز للداتا حسب تقرير حول خريطة هذه المراكز لسنة 2021.
َف
كلود سين، ف
َّ فأن تعمل الدول على حماية أمنها الرقمي، فهو أمر ضروري. لكن َ ذلك يطرح مسألة م ْركزة الداتا تحت
سلطة تتوفر لها كل الشروط لتصبح مطلقة بين أيدي قلة قليلة، مما يطرح أكثر من مشكل يهدد وجود المجتمع
والدولة المدنيين، وهو ما يطرح علينا إشكالية حمايتهما عبر تعزيز الديمقراطية الرقمية والفضاء العام
الرقمي المستقل؛ أي إخضاع الحياة االفتراضية لتعاقدات عادلة تحمينا من جميع أشكال الشطط الرقمية،
غير أن الديمقراطية الرقمية تحبل بتحديات جديدة كأن تتعدى حلبتها السياقات الوطنية. فالديمقراطية الرقمية
ُ غير ممكنة الوجود في الوضع الحالي للسلطة الرقمية العالمية المَمركزة. وهذا بدوره يطرح إشكاليات أكثر
تركيبا وتعقيدا على قوى التحديث والديمقراطية؛ ألن العدة المفهومية للحداثة أصبحت ال تفي بالغرض وعلى
رأسها مفهوم الدولة الوطنية ذات الحدود المغلقة و»الهوية المنسجمة« أو »وحدة الهوية«.
ُجابه خطر التوتاليتارية الرقمية؟ يبدو أن الحركيات
َّم هذه القوى لت
ََنظ
َت
فكيف نبني مواطنة رقمية؟ وكيف ت
الوطنية وحدها لم تعد قادرة على مواجهة شطط السلطة الرقمية، وأن مفهوم الدولة الوطنية الذي يشكل
المجال األوحد، حيث يمكن ضمان حقوق اإلنسان )أرندت، التوتاليتارية( لم يعد قادرا على استيعاب هذا
الشكل من السلطة. فالبد من بناء تحالفات جهوية وقارية وأممية لتنظيم قوى الضغط على كل الجبهات
وهو ما تقوم به العديد من المنظمات الحقوقية الدولية، ولكنه يحتاج للتجديد واالنفتاح والمشاركة القوية
من لدن بلدان الجنوب. لنأخذ مثال المساواة بين الجنسين، كيف يمكن مواجهة كل هذا العداء للنساء/هذه
الميزوجينية الخارجة عن القوانين الدولية، المنشورة عبر الويب والعابرة للحدود واألمكنة، إذا لم نخض
بصددها ديناميات على كل الجبهات بما فيها ضد الكافام GAFAM .وكيف ذلك إذا لم نعقد التحالفات
الوطنية والجهوية واألممية؟
فهل من الممكن أن نصنع ألنفسنا موقعا في العالم الرقمي؟ نعم. ولكن كيف سنفعل ذلك؟ وهل من الممكن
ُغني ونقوي العمل المشترك ونجمع
أن نفعل ذلك لوحدنا؛ أي داخل الحدود الوطنية؟ بالتأكيد ال، ولكن لن
الشتات وطنيا. إنه سبيلنا الوحيد. فإذا كانت الرقمنة حتمية تاريخية ال مفر منها، فال اختيار يبقى أمامنا، فإما
ْ َ خرط فيها بقوة، أو نخضع لسْيلها الجارف، وفي كلتا الحالتين هناك اختيار سياسي.
َ أن نن
من أجل فضاءات عامة سيربانية، ال بد من دمقرطة العامل السيرباين:
يف الحاجة إىل عقد اجتامعي رقمي جديد
مع بداية اإلنترنت، ساد االعتقاد بأنه سيساهم في تقدم الديمقراطية وحقوق اإلنسان، وسوف لن تقدر
ُحها بين الحضارات.
َالق
أي قوة رقمية كانت أو غير رقمية، على إيقاف حرية انتقال األفكار والمعلومات وت
21
ِنه مما عجز عنه في إشعاع نموذجه عبر العالم، وأن بذلك سوف
ّ
َ واعتقد الغرب أن اإلنترنت سوف يمك
تكون نهاية كل ما هو غير رأسمالي ونيولبيرالي. وبالخصوص مع سقوط االتحاد السوفياتي وما تبعه من
نه بدول االتحاد األوروبي. فكانت النتيجة على عكس ذلك، بأن
ِ تفكك لمحيطه الجيوسياسي والتحاق العديد م ُ
اإلنترنت ليس إال أداة تصطبغ بلون مستعمله، إذ أصبحت توجهات وهجوم من كانوا المستهدفين به تهدد
أمن وسالمة سادته. بنفس القدر الذي تهدد الدولة الوطنية من طرف الشركات الكبرى الخاصة بتكنولوجيا
االتصال. وإذا كان االقتصاد الرقمي قد استفادت منه وبشكل غير مسبوق قلة قليلة من الشركات الكبرى،
فإن األفراد والمقاوالت الصغيرة وما شاكل، لم تستفد كما كان التنبؤ بذلك في التسعينيات، وأن الديمقراطية
لم تتعزز بل على العكس من ذلك، وإن توسعت اشكال التعبير واالحتجاج، فذلك لم يعزز المشاركة المواطنة
في القرار، بل أتاح مجاال بدون حدود لألخبار الزائفة والتحكم من الداخل والخارج في السياسة.
َ ليس هناك مجال للشك في جدوى اإلنترنت، بل وما أحدثه وسيُ ِحدثه من تحوالت غير معهودة في كل
ِ مجاالت الحياة، على الصحة والتعليم والتواصل والنقل والتعمير والسياسة وغيرها. وأنه قد عمل على
تسهيل ودمقرطة الولوج للعديد من الخدمات بالنسبة لعموم الناس وبالخصوص بالنسبة إلى فئات محسوبة
على الطبقة المتوسطة السفلى، عبر منصات النقل المشترك، ومنصات تبادل السكنى بغرض السياحة، ومكن
العديد من األقالم الباحثة الناشئة من النشر والولوج للمكتبات البعيدة جدا، والتي لم تكن متاحة في السابق
بشكل واسع وأشياء لم تكن في المتناول في السابق أصبحت متاحة اليوم وعلى مرمى العين واليد، كل هذا
ْيودالية
ال يمكن نكرانه، ولكن وفي نفس اآلن، شكلت هذه الفئات وغيرها من عموم الناس صيدا في خدمة الف
ِ الجديدة، باعتبارها سلعا قابلة للبيع والشراء خارج أية منظومة أخالقية إال قوانين السوق النيوليبرالية. فقد
أعلنت شركة آبل Apple أنها سلمت سنة 2018 لفرع لفاعل عمومي صيني في التيليكوم، قاعدة بيانات
زبنائها الصينيين مع عناوينهم اإللكترونية وهواتفهم15 .وأن 70 بالمائة من المبادالت الدولية من حيث
المعطيات الرقمية تمر عبر الواليات المتحدة األمريكية، وأن أجهزة االستخبارات لكل من الواليات المتحدة
وبريطانيا تتحكم في االنترنت وتعمل على مراقبته كما فضح ذلك سنودن 2013 ،بل إن كل الدول العظمى
تتوفر على قدرة للتحكم في االنتخابات لبلدان أخرى، وإن كانت ال تنقص عنها قوة سيبرانية، فما بالك بمن
هو فاقد ألي سلطة رقمية.
ُلما تقدمت في رقمنة اقتصادها وإدارتها
تتعاظم المخاطر والتهديدات لبلدان تابعة رقميا مثل بلدنا ك
ومجتمعها، بنفس القدر الذي تتقدم فيه على هذه المستويات الثالثة. وفي كل األحوال مضطرة الدول على
رقمنة كل أنشطتها، فال اختيار لها في ذلك. ويتبين يوما بعد يوم، وبالخصوص مع األزمة الصحية كوفيد 19
ً التي النزال نمر بها عدم استقاللية البلدان عن بعضها البعض. فغدا قد ال تتوصل الدول باألدوية والعالجات
ضد جائحة أخرى إال عبر اإلنترنت والطابعات الثالثية األبعاد.
ص.63. cit.op, numérique économie’l de Critique: Technoféodalisme, Durand Cédric 15
22
مع تزايد الترابط بين الدول عالميا، تبقى مسألة السيادة الرقمية اليوم أحد أعقد وألح القضايا التي ال يمكن
لبلد واحد حلها على الصعيد الوطني، ولكن معالجتها ال تكون إال في إطار تحالفات جغرافية والمشاركة
القوية لهذه التحالفات في سيرورة تنظيم ومعيرة العالم الرقمي أمميا بشكل عادل وآمن للجميع. وهذا األمر
َّمنا التاريخ بدون أزمات حادة. والعدالة الرقمية األممية ال تتأتى في غياب تعدد األقطاب
ال يتأتى كما عل
الجيوسياسية الرقمية. إن العدالة الرقمية األممية تحتاج إلى تعزيز أقطاب رقمية جديدة، على سبيل المثال،
تعزيز القطب الصيني-الروسي، وتعزيز االستقاللية الرقمية لالتحاد األوروبي، والعمل على إقالع القطب
اإلفريقي والقطب األمريكي الالتيني. نعرف أن معالجة األمن السيبراني لدى بعض الدول ال يزال تحت
تأثير الحرب الباردة بين الصين وروسيا من جهة، والواليات المتحدة وحلفاؤها من جهة أخرى، غير أن
ظهور أقطاب رقمية جديدة سوف يزيل فتيل الصراعات الثنائية القطبية التي يمكن أن تفضي إلى صراعات
مدمرة.
فكيف يفكر المدافعون عن العدالة والمساواة وحقوق اإلنسان والديمقراطية على المستوى الرقمي؟ إن
التحديات التي يطرحها اإلنترنت على قوى المقاومة ضد الديكتاتورية الرقمية ومن أجل العدالة والمساواة
والرفاه أن تأخذ مسألة المقاومة الرقمية ما تستحقه من اهتمام واعتبار وطني في إطار دينامية جهوية وأممية،
وأن تعمل من أجل أن تتم حماية األمن السيبراني بشكل تشاركي بين جميع األطراف المعنية، حتى ال يبقى
أمرا بيد حفنة من االقتصاديين والسياسيين.
مالحظات ختامية:
من الصعوبة بمكان الخروج بخالصات وثوقية في موضوع »الفضاء العام السيبراني« لشدة تركيبه
ِوجَّدته، وبالخصوص السرعة التي تتطور بها التكنولوجيا، وتترقمن بها المجتمعات. وبالمقابل يُالحظ
ِيت
ّ
بطء في التحليل السوسيولوجي لفهم هذه التحوالت واستيعابها16 .فالعالقة بين الحياة االجتماعية على الن
ٌ، وعالقة الفرد االفتراضي بالفرد االجتماعي مبهمة، وإن قال عنهما
وخارج النيت التزال غير معروفة كفاية
دافيد لييون إنهما ال يتشابهان، وأن الهويات تصبح مشروخة، والعالقات »االجتماعية« مفككة، ويندثر البعد
ْ المكاني وال تبقى منه إال تمثالت فردية، وتتغير أيضا عالقتنا مع الزمن…يضيع المعنى وتش ُحب اإلحاالت
جرا. فإلى أي حد يمكن القول بوجود عالقة جدلية بين العالم الواقعي والعالم
َّ االجتماعية بل قد تنمحي وهلم ًّ
السيبراني؟ وهل مفهوم الجدلية ال يزال مجديا في تحليل إشكالية الفضاء السيبراني؟
90. p, Madrid, 2009, Alianza Sociología. Ed), edición segunda (Postmodernidad, Lyon David 16
23
كل هذا سوف لن يسعفنا للجواب عن سؤال إمكانية وجود فضاء عام سيبراني. وعلى الرغم من صعوبة
األمر، فالبد من خوض المغامرة؛ ألن ابتغاء التقدم ال يترك لك مجاال لاللتفاف على السؤال. هناك اعتباران
أساسيان لمقاربتنا للفضاء العام السيبراني كمعطى سياسي:
أوال- أن الفضاء العام السيبراني يشكل معركة مفصلية من أجل الديمقراطية االجتماعية وفرصة
لتجديد الخطاب السياسي الحداثي؛
ثانيا- أن إيقاف نزيف الديمقراطية سوف لن يتم إال عبر مقاومة تجريدها من عمقها الشعبي المنظم
عبر إثراء ثقافة التداول المبنية على الحجاج العقالني عن طريق التنظيم الشعبي الرقمي عن قرب.
1 .الحياة السيبرانية ليست مجرد حياة موازية للحياة خارج الشبكة العنكبوتية، بل إنها ما فتئت تقرض
َّفكير في إصالح الفضاء العام كدعامة إلصالح الديمقراطية
في كل لحظة من مساحة الحياة البيولوجية. فالت
ودولة الحق والقانون وتحديث المجتمع، قد يجد مخرجا له في الرقمنة، لما تتيحه من إمكانيات غير معهودة،
ْح النقاش حول مقومات الفضاء
َفت
بإعادة بناء تعاقدات جديدة تضمن استقالليته وحرية التعبير واالختالف. ف
العام السيبراني كمعطى سياسي أصبح يطرح نفسه بإلحاح وباستعجال على المستوى الوطني. كيف نجعل
من الفضاء العام السيبراني فرصة لتوسيع ومأسسة التداول والمشاركة الشعبية على أوسع نطاق؟ بمعنى
ُمأسس الديمقراطية التداولية والتشاركية رقميا؟ ويشكل كذلك االنخراط في النقاشات المدنية
آخر كيف ن
على المستوى اإلفريقي والعربي والمتوسطي وكذلك العالمي ضرورة إلرساء دعائم تنظيمه لفائدة الشعوب
والتقدم وحمايتها من مكر الديكتاتوريات االقتصادية والسياسية.
2 .إن أحد أهم المعارك التي يجب خوضها في هذه المرحلة من أزمة الفعل السياسي هو العمل على ردم
ُ َ ناقش السياسة االقتصادية في الفضاءات العامة حتى ال
الهوة بين القرار االقتصادي والرأي العام؛ أي أن ت
ْيُوداليين الجدد، وأن تعود الجامعة إلى أدوارها األساسية دون
ْ َن ِ ويا خْبراتيا في خدمة السوق والف
ِ تبقى احتكارا تق
تحيز للرأسمال وحده بتدريس كل المرجعيات االقتصادية األخرى والحث على إثراء الفكر النقدي، بعدما
سيطر الفكر الوحيد النيوليبرالي على »المعرفة« االقتصادية، وهو ما أبعد القضايا االقتصادية األساسية عن
أي تأثير شعبي )سيدريك دوران(. إن عالم االقتصاد يراد له أن يكون ذي الفكر الواحد والتمثيلية الواحدة في
ٍ من مبادئ الليبرالية أال وهو الحرية. ولم تتوقف النيوليبرالية عند هذا الحد، بل جعلت
خرق سافر ألهم مبدإ
من منظورها االقتصادي األحادي المرجعية منظارا لكل شيء، أصبحت السياسة والثقافة تقاس بمعايير
ِ ْ يندي براون17 بـ »الثورة« النيوليبرالية المتخفية
ِين. إن المقاومة اليوم يجب أن تنصب ضد ما سمته و
ّ
َ الم ِ اركت
التي استولت على كل شيء، لالنتصار على تبضيع السياسة واالجتماع والثقافة والبيئة، وحلت الحكامة
َّ السياسة، ومعالجة المشاكل محل التداول من أجل العدالة والمصلحة العامة
كمجموعة تدابير تقنية محل
democratie-la-contre-neoliberalisme-Le/am.lundi://https 17
24
وهلم جرا. ويقتضي ذلك أول ما يقتضيه هو االنتباه للغتنا وخطابنا؛ ألن السلطة النيوليبرالية تتخفى خلفها.
ُ ِ مقاومة النيوليبرالية. فخلف كل مفهوم
بمعنى آخر أول المقاومة تبدأ ببناء المعنى الجديد، باللغة الجديدة، لغة
ِدماج يخفي اإلقصاء المنهجي، والمشاركة المواطنة
ِ ُئ معنى نقيض له )فوكو(. فاإل
ِظاه ُر َ ه »عادال« يختب
تخفي انعدام الجرأة في اإلصالح، والحكامة الجيدة تخفي قتل السياسة، وتقنين اإلضراب يخفي قتل العالقة
الشغلية، الشراكة قطاع عام قطاع خاص / تنصل الدولة من مسؤولياتها االجتماعية، الساكنة قتل للشعب…
وما شاكل ذلك كثير. إن تحرير االقتصاد فكرا وسياسة من توتاليتارية التكنوقراط وادماجه في الفضاء العام
يشكل لبنة أساسية لتجديد النقاش العمومي ودمقرطته.
3 .إن فساد الديمقراطية ناتج عن انحراف الليبرالية التي طوعت السياسة لصالح صيغتها المستحدثة
َ ْسليع كل متطلبات الحياة لتصبح النتيجة مدمرة لإلنسان والطبيعة على حد سواء
ْها من معانيها بت
َ فأفرغت
ْمة التي تحبل
َّ وملحقة أكبر الهزائم للفكر السياسي الليبرالي اإلنسي والديمقراطية االجتماعية. فجاءت الرق
ْ نظريا بمقومات إنقاذ الفضاء العام لتزيد من البلقنة التي ما فتئ يعاني منها منذ أزيد من نصف قرن. واعتقدنا
أنها سوف تكون خالصا لنا من سلطة الرقابة. لكن سرعان ما أدركنا أن األمر سوف لن يكون بهذه السذاجة
ِ السياسية. بالكيفية التي يدبر بها اآلن، م ْن جعل اإلنسان وكل المعطيات الخاصة به والعامة تحت رحمة
قلة قليلة من المالكين الرقميين، وهو ما يهدد بانشطار النقاش العام وموت الديمقراطية وعودة السلطة
المطلقة. ولهذا فكل المحاوالت الترقيعية، من »أنسنة« النيوليبرالية و»الديمقراطية التشاركية« وغيرها،
كل هذا سوف لن يكون مجديا، بل هي مسكنات تمنح الوقت للسلطة. فتحرير الفضاء العام بضمان مقومات
استقالليته مهمة ثورية على عاتق قوى التغيير الحداثية، تحتاج لرؤى جديدة تقطع مع مسلمات الليبرالية
المستحدثة وذلك بإعادة السوق إلى سلطة المؤسسات الديمقراطية من أجل أن يصبح في خدمة اإلنسان
والبيئة وحماية للسياسة والمجتمع من أن يتحوال إلى سوق.
4 .ال بد من التفكير في شكل تدبير العالم السيبراني بطريقة ديمقراطية مستقلة عن أي جهة كانت سياسية
أو اقتصادية أو علمية تكنولوجية على أساس مبدأي حرية التعبير والتعددية من جهة وقطع الطريق على
خطابات الكراهية والتحريض. فال مبادرة زوكربيرغ المتمثلة في إنشاء مجلس مستقل لمراقبة منصته وال
كل النوايا الحسنة لمالكي المنصات الرقمية الكبرى سوف تنقذنا من السلطة السيبرانية. إن هذا المطلب ليس
حلما، بل ضرورة للتقدم والحداثة والديمقراطية. فالعالم يحتاج إلعالن عالمي على المستوى الرقمي لتنظيم
عادل يحمي البشر ويضمن حرية المواطنين على أساس منظومة قيم األمم المتحدة، بتقنين سلطة القرار في
الفضاء الرقمي العالمي عبر آليات ديمقراطية تعمل على حماية احترام الحق والقانون، حتى ال تترك مجاال
لتحكم من ال يؤمن بها. تتمثل فيها جميع البلدان الصاعدة في آليات دامجة لتنظيم الفضاء السيبراني العالمي.
5 . َّ إذا كان الفاعلون االقتصاديون قد حضروا وتهيَّأوا للتجارة ومستلزماتها في العالم الرقمي بشكل
شرس وذلك باالتفاق على المعايير القمينة بضمان مصالحهم، من شروط المعامالت الرقمية والدعاية
25
ُّب خطوات الناس وتفاعالتهم
َ َعق
التجارية واالشتغال على كيفية استقطاب المستهلك التي تمت البراعة فيها بت
واختياراتهم البحثية في الفضاء السيبراني لتصبح الدعاية التسويقية )كل شيء أصبح بضاعة بما فيها
التفكير( متكيفة بدقة مع حاجيات الفرد )personnalisation )وليس الجماعة، بل دارسة لنفسيته فتستبق
طلباته بخلق حاجيات لم يرغب فيها مسبقا. هناك حرب شرسة من لدن الشركات للظفر بالمعطيات تهدد
حماية الحياة الخاصة للناس. وهو ما يطرح إشكاالت أخالقية وسياسية في تنظيم الفضاء السيبراني. أمام
هذا التنظيم والتحضير المحكمين للعالم الجديد من لدن االقتصاد، توجد الشعوب وبالخصوص الفقيرة منها،
ومؤسسات المجتمع المدني عزالء من حيث المعرفة وإمكانيات الولوج للرقمنة والحماية من استبدادها بشكل
متكافئ. فتصبح المعركة من أجل مجتمعات حرة ديمقراطية يسودها العدل معركة غير متكافئة؛ في عالم
َّم فيه بطرق لم يسبق لها مثيل
ّ ُ ق نفسه على أنه حر ومفتوح أمام الجميع ولكنه في حقيقة األمر متحك
ِ
يُسو
اعتمادا على ما وصلت له المعرفة العلمية والتكنولوجية من علم النفس والعلوم العصبية وغيرهما.
6 .إن النقاشات التي تتم على الشبكات االجتماعية ال تعدو أن تكون عبارة عن دردشات متقطعة مملوءة
بالثقب على المستوى التواصلي، ال ترقى لمستوى النقاش الحواري التداولي الذي ال يمكنه أن يتجاهل هذا
الرأي أو ذاك كما يفعل المبحرون السيبرانيون. وبالتالي ال يمكن اعتباره نقاشا عموميا ألن الطريقة التي
يتم بها ليست ديمقراطية ألن المشاركون ال يحظون عمليا وليس افتراضيا بنفس الفرص للتعبير. إن أشكال
التعبير في العالم السيبراني مختلفة، من الشكل العمودي المعتمد في بعض الشبكات االجتماعية، فايسبوك
مثال أو مجموعات الواتساب وغيرهما. يتم التعليق وإبداء وجوه النظر بشكل انتقائي؛ والشكل األفقي كما
هو الحال باللقاءات التناظرية على زوم أو تيمس وغيرهما. وإن كان هذا الشكل يوفر إمكانيات التفاعل
والتالقح ولكنه يبقى غير كاف لتوفير الشروط الضرورية للقيام بتداول سياسي حقيقي، إذ تعوزه الحرارة
اإلنسانية الناتجة عن القرب بكل داللته الحسية والحركية والرؤية الشمولية للمجال ومؤثراته على التفاعل
وبناء الرأي المشترك… هو عبارة عن محاكاة انتقائية للواقع الواقعي وموجهة وغير حيادية. هي محاكاة
للحظات منفصلة ومنعزلة وال تبني الرأي بشكل توليدي. هو نفس االنطباع الذي ينتابنا إذا زرنا أماكن
معزولة عن بعضها البعض، كالمستشفى مثال، ينتابنا الشعور كما لو أن الناس جميعا مرضى، أو السوق كما
لو أن الناس جميعا يتسوقون، أو السجن …إلخ. لكننا نعرف أن األمر ليس كذلك. هو نفس الشعور عندما نلج
مكانا سيبرانيا سياسيا كان أو اقتصاديا أو ثقافيا نعتقد أن الناس موجودين بكثرة غير مسبوقة. عالوة على
أن »اإلنسان« الرقمي غالبا ما ال تنطبق هويته الحقيقية بهويته االفتراضية، فتصبح المسؤولية الفردية التي
تشكل عماد اإلرادة المستقلة الضرورية لبناء الرأي العام غائبة.
7 .أليس من الغريب حقا أن نفرح بما يوفره اإلنترنت من فرص قوية لالنفالت من رقابة الدولة،
وأن ال نهتم كثيرا برقابة شركات خاصة يسيرها أفراد. فأبرز مثال على السلطة الجديدة التي يحتكم إليها
هؤالء هي فضائح كامبريدج أناليتيكا وفايسبوك عالقة باستخدام المعطيات الخاصة بماليين الرواد بفايسبوك
26
عبر تحليلها وتوجيهها للرأي العام خالل حملة خروج بريطانيا من االتحاد األوروبي Brexit والحملة
االنتخابية لترامب واألمثلة كثيرة معروفة لبيع الرواد للسلطة االقتصادية والسياسية في البلدان الديمقراطية
فما بالنا بالنسبة إلى البلدان العربية وغيرها من الدول المتخلفة. يوجد الفضاء السيبراني تحت رحمة زعماء
السيبرانية، تويتر فايسبوك يوتوب، حسب دراسة المعهد الفرنسي للعالقات الدولية قام تويتر وألول مرة
ْ َمت صيني. وفي يونيه 2020 ،بحذف 173550 حساب آخر.
بحذف في غشت 2019 ،936 ُ حساب مَؤت
وحسب نفس المصدر عشر هذه الحسابات كان مخصصا لمحتويات في خدمة بكين وما تبقى كان يقوم بدور
إغناء هذه المحتويات. وفي نفس السياق قام فايسبوك بتفكيك ثالث شبكات لحسابات مزيفة كانت تستهدف
ُدوال كافريقيا الوسطى ومالي وليبيا18 .إن حماية اإلنسان والشعوب، بل والدول على كف زوكربيرغ وبيل
غيتس وإلين موسك وغيرهم قليل.
والحالة هذه، الفضاء السيبراني، مسؤولية من؟ أو كيف تتحدد المسؤوليات؟ كيف نضمن الحدود الفاصلة
بين الحماية وحرية التعبير؟ ليس مسؤولية المصممين وحدهم وال السلطات العمومية وحدها، ألنه لو أصبح
كذلك لعرضنا المجتمعات الحديثة لتصبح مجرد إقطاعيات لهؤالء. إن انخراط القوى الحية المجتمعية في
سالسل إنتاج المعنى السيبراني وحمايته هو الضمانة وصمام أمان حماية الديمقراطية. وكما تقول هنرييتا
يوستن19 ليس مهما كيف سيتم العمل على انخراط المواطنين والمواطنات في صنع القرار، ولكن كيف
يمكن بناء مجتمع حر في ظل التكنولوجيا. علينا تحليل المسار الذي تركبه التكنولوجيا الرقمية اليوم وما
هي المسارات األخرى األكثر عدال وإنسانية. ال يمكن بأي حال أن يعوض الفضاء السيبراني الفضاء العام
المادي حيث يلتقي الناس في كل أبعادهم اإلنسانية لينتجوا بشكل مباشر وبإرادة حرة الرأي العام. إن الفضاء
السيبراني فضاء مشوه ال تتوفر فيه شروط الفضاء العام وعلى رأسها المسؤولية الفردية المكشوفة والمعلنة.
ولكنه وفي نفس اآلن يشكل ساحة من ساحات معركة الديمقراطية والتحديث والمساواة بين النساء والرجال
اليوم كل المستويات من تفكيك خطاب التخلف وإنتاج الخطاب النقيض وخوض معارك التغيير والتقدم.
8 .لمقاومة توجيه التطبيقات الختياراتنا ال بد من بلورة الوعي بوجودها المتربص بنا وتعزيز القدرة
على عدم االنصياع لها. من أجل ذلك علينا الوعي بأن كل ما »يصادفنا« على النيت ليس محض صدفة ولكن
هو نتاج لتراكمات أنشطتنا على المحركات وهو قراءة لميوالتنا من لدن خوارزميات، وهو ما يطلق عليه
االنغالق الخوارزمي للشبكات االجتماعية algorithmique enfermement .فإذا لم ننتبه لذلك سوف
نفقد قدرتنا على تجديد ذواتنا وهو ما يميز اإلنسان حتى اآلن. وهكذا فسوف تتحكم التكنولوجيات الجذرومية
في الشرط اإلنساني وطبيعة المجتمع.
informationnelle lutte la de enjeux nouveaux les: influence-Cyber, « Tenenbaum Élie et Rochegonde de Laure 18
55. P»
19« الفضاء العمومي في القرن الحادي والعشرين« | شباب التفاهم
27
9 .الفضاء السيبراني بقدر ما يتطور ويتجدد وييسر الخدمات المعرفية والمعيشية لما يتميز به من
سرعة انتشار المعلومة ومرونة قصوى، بقدر ما يحبل بالمخاطر والهشاشة جراء العتامة التي يحبل بها
وما تتيحه من شروخ تسهل اختراقه والتحكم في المعنى المتدفق، وهو فضاء خاضع لعالقات القوة بامتياز
فيه تبرز القدرة على البحث واالبتكار واالستباق الدائم بال هوادة وبسرعة جنونية لن تقدر عليها إال القوى
العظمى المبتكرة. وقد تجد هذه القوى يوما ما نفسها هي األخرى عاجزة أمام الذكاء االصطناعي.
ّ إن أكبر تحدٍ تطرحه الرقمنة على العمل السياسي الديمقراطي هو ما هي األشكال التنظيمية الجديدة التي
يجب تطويرها للمجتمعات الرقمية. فما لم نعالج هذه اإلشكالية، سوف تتفاقم أزمة الديمقراطية، وبالمقابل
سوف تتاح كل الفرص لتربع كل أصناف التوتاليتارية وعلى رأسها الرقمية. تقول حنة أرندت »… يوجد
وراء أفول الدولة الوطنية مشكل تنظيم جديد للشعوب لم يحل؛ وخلف العنصرية مشكل مفهوم جديد لإلنسانية
لم يحل، ووراء التوسع من أجل التوسع مشكل تنظيم عالم يضيق باستمرار وأننا مجبرون على تقاسمه مع
شعوب تاريخها وتقاليدها ال تنتمي للعالم الغربي.« ويمكن القول أيضا إن وراء التمييز ضد النساء عالقة
جديدة بين الجنسين لم تحل، فوراء كل أزمة إشكاليات لم تتم معالجتها.
ففي زمن أصبح فيه الواقع أشد تركيبا مما مضى، واقع واقعي مادي ال يتوقف عن التقلص لفائدة واقع
افتراضي في توسع مستمر، وآخر مزيد في تطور سريع، هل سوف يكون أكثر معقولية ومقبولية وواقعية
في عصر الرقمنة اعتماد مقولة الفضاء العام المزيد أثناء اتخاذ القرار السياسي؟ أي فضاء عام مادي تتوفر
فيه جميع المحددات السياسية من استقاللية وجرأة وإرادة حرة ونزيهة وشفافة، منشغلة بالشأن العام من أجل
َ ِقيه من
التقدم والتحديث والديمقراطية االجتماعية مفتوح على الفضاء السيبراني، مزيد ومدعم بوسائل ذكية ت
كل ما يمكن أن يعيق تحقق الشروط الضرورية لوجوده. غير أن هذا الفضاء العام المزيد سوف يطرح العديد
من اإلشكاالت ذات البعد األخالقي والسياسي التي علينا العمل على حلها. أين ينتهي ضمان شروط الفضاء
العام، وأين تبدأ سلطة الرقابة الكابحة للحرية والمساواة اللتين تشكالن دعامته األساس. وهذا يطرح علينا
أيضا سؤاال ذا أهمية كبرى بالنسبة إلى الديمقراطية في زمن الرقمنة: كيف يجب أن نتعامل مع الديناميات
ٍ الرقمية ذات الطبيعة السياسية االجتماعية؟ هل نتركها صيحات في واد على اعتبار أن نزاهتها مشكوك
ُبها للنقاش العام في الفضاءات العامة المتوفرة على شروط النقاش الحر
َ فيها، أم نتعامل معها بكل جدية ونجل
ُ َطرح علينا اليوم، ولم يكن لنا بها سابق
النزيه على اعتبار أنها مطالب عادلة؟ هي أسئلة من ضمن أخرى ت
عهد، تحتاج منا للمجهود الفكري لحلها لضمان االستقرار والعدالة والحرية في المجتمع والدولة الرقمية.
28
بيبليوغرافيا
.pp, 2020, Zones. Ed, numérique économie’l de Critique: féodalisme-Techno, Durand, Cédric
209
.pp, Madrid, 2009, Alianza Sociología. Ed), edición segunda (Postmodernidad, David, Lyon
189
Les. 1992 Automne, 18. N. Quaderni: In. après ans 30», public espace›L. «Jurgen Habermas
(Persée (- 191- 161. pp. publics espaces
.Ed, 2020 impresión Cuarta, Kohn Jerome. Trad, Política la de promesa La, Arendt Hannah
España, Barcelona, Austral
Quarto. ed, France, Jérusalem à Eichmann et Totalitarisme du origines Les_____________,
2002, Gallimard
lutte la de enjeux nouveaux les: influence-Cyber, « Tenenbaum Élie et Rochegonde de Laure
(Po Sciences (2021 mars, Ifri, 104° n, stratégique Focus », informationnelle
المواقع اإللكترونية:
اللغات األجنبية
/monde-le-dans-centers-data-des-lexpansion//09/202114/fr-.veillecarto20://https
=searchTerm?search/com.cloudscene.discover://https
jpeg.24147/normal/images/Infographic/com.statcdn.cdn://https
dimension comme publicité la de Archéologie. public espace›L), Jürgen (Habermas
1988. réed, Payot, Paris, bourgeoise société la de constitutive
/expression-of-freedom-our-safeguard-facebook-can/org.internetwithoutborders://https
pdf.VF_SITE_fr_ADD_NOG_Avril/pdf/storage/ma.gov.add://https
/maroc-au-securite-cyber-la-et-droit-le/ma.lte://https
اللغة العربية
الفضاء العمومي االلكتروني والتعبئة السياسية الذكية – المركز الديمقراطي العربي
»الفضاء العمومي في القرن الحادي والعشرين« | شباب التفاهم
الرقمنة ونهاية األحزاب السياسية .. افكار تبعث للتفكير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist