الأربعاء, يناير 8, 2025

حضور النساء في التاريخ و مخاض الحداثة العسير (الجزء الأول)

ذ. إدريس بنيحيى

قضية المرأة في الفكر السلفي الإصلاحي
عند النخبة الحضرية بتطوان، أثناء الحماية الإسباتية بشمال المغرب
(1956/1912 ) : نموذج التهامي الوزاني

قبل الخوض في مواقف وسلوك التهامي الوزاني من مسألة المرأة المغربية أريد أن اقف عند بعض المفاهيم لتوضيحها، وسأتجاوز قضية المرأة الواردة في العنوان أعلاه لأن هذه القضية أصبحت اليوم معروفة لدى المتتبعين ليس فقط باعتبارها قضية اجتماعية لمواطنة مسلمة يعطيها الإسلام حقوقا وواجبات ،عمل المجتمع التقليدي على طمسها كما صاغ ذلك قاسم أمين منذ أكثر من قرن، بل أيضا أصبحت القضية معروفة باعتبارها قضية ذات ابعاد متعددة، اجتماعية وسياسية وثقافية وربما حضارية أيضا، لأنه كما قال عبد الله العروي في إحدى حواراته” أن مشاكل المجتمع تأتي من هنا، أي من المرأة فإما أن تحرر وتحرر نفسها بنفسها وإما أنها تتكبل وتكبل المجتمع بتكبيلها، فتكبيل المرأة حتى وإن رضيت بذلك هو تكبيل للمجتمع. والمفهوم الذي أريد توضيحه هو الفكر السلفي الإصلاحي ، ففي تعريفه لهذا الفكر يقول العروي في كتابة الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية (1830- 1912) أن “السلفية في الجوهر كانت منهجية في خدمة مدارس التفكير، فهي لم تكن تستجيب فحسب لبعض المصالح الفئوية وللمركزية المخزنية، بل كانت أيضا تستجيب لسلطة العلماء و للإصلاحية البورجوازية . ومن ثم كانت السلفية في آن واحد إصلاحا ذو أبعاد أخلاقية واجتماعية ودينية وسياسية.إن حصر السلفية في المضمون الوطني فقط هو اختزال لها في الاستعمال التكتيكي، وبالتالي تجاهلها كقيمة منهجية نهلت منها كل الثقافة الإسلامية المغربية.

كان هناك في الواقع تياران يخترقان في صمت الوطنية السياسية المغربية وتركزت مشكلتهما في الإجابة على السؤال التالي؟هل يجب إصلاح البنية السياسية والاجتماعية بالبلاد في ظل الحماية قبل التفكير في استقلال البلاد أم بالعكس يجب أن يتجه العمل كله نحو إقرار حكم السلطان دون الاهتمام بتحسين أوضاع البلاد ؟. ويجب الاعتراف أن التهافت لاكتساب الشعبية قد مكن الإيديولوجية المطابقة للفكر السلفي، والتي وجدت في البلاط و القرويين، من أن تكسب المعركة لصالحها في المدن ، متجاهلة الإصلاحات التي طرحتها الحماية، وبدخول سنة 1943- 1944 تأكد أكثر هذا التحالف، أي التحالف بين البلاط و القرويين ، من خلال وثيقة المطالبة بالاستقلال ، حيث لم يعد الأمر يتطلب استعادة السلطة التي فقدها السلطان سنة 1912 وكاد أن يفقدها إلى الأبد مع الظهير البربري ف 16ماي 1930 ، بل أصبح مطلب الاستقلال هو الشعار المرفوع ، وذلك لأن التجربة قد بينت أن هيمنة الشرع تقتضي إقرار السلطة المخزنية. من جانب آخر فقد كان للفكر السلفي مضمون اجتماعي متعدد الأوجه وتمثل ذلك في أن الفئات المهيمنة المتمثلة في الخاصة القديمة هي التي استطاعت أن تفرض نفسها كنخبة في البلاد انطلاقا من المدن الحضرية الكبرى التي عرفت تاريخيا وجود خاصة وأرستقراطية مدينية تملك كل أشكال السلطة السياسية الاقتصادية والثقافية وغيرها ، وتتمثل هذه المدن في فاس، ومراكش ، والرباط، وسلا، وتطوان، التي ينتمي إليها التهامي الوزاني. طبعا ارتبط الفكر السلفي بالوطنية مع بداية الثلاثينات انطلاقا من المدن المذكورة آنفا. فما هو التعريف الذي يمكن إعطاؤه للوطنية؟. يعرف العروي الوطنية بما يلي ” إن الوطنية في معناها الوظيفي تتجاوز البعد السيكولوجي والأيديولوجي والسياسي لتضم كل هذه الأبعاد في إطار بنية للسلوك الجماعي يتحدد من خلال ماضي مجتمع معين. فحينما تواجه جماعة وضعا جديدا يهددها في وجودها فإن أعضاءها يتجهون إلى الاحتماء بثقافة موروثة. فأمام هزيمة عسكرية أو هيمنة تجارية أو استعمار تضطر هذه الجماعة إلى تبني نظام جديد للقيم للدفاع عن وجودها عبر إحياء ثقافة قديمة تعطي شرعية للمواقف والنظريات ولسلوك الأشخاص. ليست الوطنية إذن نزعة دينية وثقافية وإثنية، بل هي مسألة بقاء عرق وثقافة لمهددة ] تعبر عن نفسها من خلال الوطنية..  كان التهامي الوزاني إذن احدا من هذه الجماعة التي كانت مهددة بالاجتثاث بفعل الاستعمار، من هنا نفهم الوعي التاريخي الحاد للتهامي الوزاني (وللفقيه داود) بمسألة التأخر التاريخي ، وبالتالي حاجة المجتمع إلى التقدم وتجاوز الأفكار المحافظة بما فيها تلك المتصلة بقضية المرأة المغربية. وقبل الكشف عن مواقفه في هذا الموضوع أريد أن أعطي نظرة موجزة عن حياته. يعتبر التهامي الوزاني المزداد سنة 1903 من أهم عناصر النخبة المثقفة بتطوان أثناء الحماية الإسبانية، التي وضعت على عاتقها مهمة المساهمة في نهضة وتقدم المجتمع المغربي من خلال العمل الثقافة والتربوي والسياسي، فهو مثقف عصامي لأنه لم يتلق تعليما منتظما سوى سنة واحدة. ومع ذلك فقد أصبح منذ وقت مبكر صحفيا وكاتبا ومؤرخا ومناضلا سياسيا ومربيا ومتصوفا، كتب بغزارة خاصة في جريدة الريف التي أصدرها سنة 1936. نشأ متصوفا في الطريقة الدرقاوية، لكن ذلك لم يمنعه من الاهتمام بشؤون عصره، حيث تعلم اللغة الإسبانية وانخرط في صفوف حزب الإصلاح الوطني وأصبح واحدا من القياديين البارزين فيه.أما في الميدان التعليمي فقد ساهم في ظهور حركة المدارس الوطنية بالشمال ومنها المدرسة الأهلية التي كان أحد مديريها المرموقين. ويبدو أن شخصيته المنفتحة هي التي دفعته إلى التمرد على الأفكار المحافظة لعصره حيث كانت له صلات وثيقة ببعض رهبان البعثة الكاثوليكية، كما انضم إلى الماسونية في بداية الثلاثينات صحبة وطنيين آخرين . وإلى جانب ذلك فقد كان التهامي الوزاني كثير التردد على قاعات السينما رفقة زوجاته في وقت كان فيه ارتياد السينما واصطحاب الزوجة أمرا يثير الفضائح. كانت كتاباته كذلك غزيرة ومتنوعة، فقد كتب في التاريخ، وفي التربية والتعليم، وفي الفلسفة والفقه والتفسير، والترجمة . باختصار، فقد كان التهامي الوزاني قبل وفاته سنة 1972 رجل نهضة متعدد الأبعاد ، لكن كتاباته حول المرأة المغربية حسب ما اطلعت عليه كانت قليلة. لقد غلب على معظم كتاباته البعد السياسي الوطني والثقافي وهي خاصية لاتهم التهامي الوزاني وحده بل تشمل جل أفراد النخبة الحضرية بتطوان والمغرب عموما أثناء الحماية. ويفسر ذلك في رأيي بضعف اهتمامهم بمسألة التحديث الاجتماعي وفي قلبه قضية المرأة. لقد كان لكتب جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده أصداء قوية بالمغرب عموما وتطوان على الخصوص، لكن كتب قاسم أمين حول تحرير المرأة لم تجد ذلك التأثير القوي الذي لقيته في مصر .
وأعتقد أن أهم الأصداء التي وصلت إلى المغرب حول المرأة هي تلك المحاضرات التي ألقاها الفقيه والموظف المخزني محمد الحجوي وحصرها حول تعليم المرأة والسفور، خلافا لتونس التي دعا فيها المصلح الطاهر الحداد منذ بداية الثلاثينات من القرن العشرين إلى رفع الحجاب عن المرأة و عدم وضع حد لتعليمها في كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع ويبدو أن ضعف اهتمام النخبة الحضرية المغربية والتطوانية بمسألة التحديث الاجتماعي راجع إلى كونها كانت مستغرقة بصورة شبه كلية في المسألة السياسية. ومع ذلك ، فإن جرائد مرحلة الحماية لا تخلو من مقالات تتصل بموضوع المرأة . وفي هذا السياق كتب
عبد الله كنون في مجلة المعرفة سنة 1948 ” أن كل مغربي مغربي لا يرضيه بعد اليوم ( يقصد زيارة محمد الخامس لطنجة سنة1947وظهور الأميرة عائشة إلى جانبه) أن يرى زوجته وبنته وأخته قرة نفس وسلوة قلب، كمية مهملة لا دخل لها في عد ولا حساب، يريد المغربي أن يرى شريكة حياة وربة منزل ومربية أولاد بالمعنى العلمي الصحيح ،لا لحما على عظم إن لم يحرسه أكلته الكلاب”.. “إن للنساء كشقائق للرجال حقوقا وواجبات منها طلب العلم، فما أوجبه على الرجال أوجبه أيضا على النساء ولانهاية لما تطلبه المرأة من العلم شأنها في ذلك شأن الرجال …كما دافع محمد ابن تاويت عن حق المرأة في الحرية والمساواة مع الرجل وفق ما تنص عليه الشريعة الإسلامية حيث أعطاها حق الكفالة والتعليم وشرع لها حق العمل وحق اختيار الزوج الذي ترتضيه لنفسها .
أما فيما يتعلق بمواقف التهامي الوزاني حول المرأة ، فإن ذلك يقتضي في نظري ليس فقط الكشف عن كتاباته في هذا الميدان ، والتي يوجد معظمها بجريدة الريف ، بل يجب استكمال ذلك بتحليل سلوكه وتصرفاته مع زوجاته.
أما ما يتعلق بالكتابات الموجودة في جريدة الريف فيتصل معظمها بمحارية الأفكار البالية التي لصقت بالمرأة آنذاك وحرمتها من التعليم، ومن ولوج الفضاء العمومي بدعوى أن ذلك مخا لف للشرع الإسلامي. فقد كتب التهامي الوزاني سنة 1936 تحت عنوان ” فكرة يجب محاربتها” لأنها تقف عائقا أمام نهضة المجتمع، ويتعلق الأمر بالفكرة “التي تقيد المرأة بقيود الجهل وترى تعليمها عارا وانخراطها في طلب العلم فاحشة ومنكرا يجب تغييره، ونسي أنصار هذه الفكرة حال المرأة التي وصلت إلى يوم كانت دولة الإسلام قابضة بزمام الحضارة والرقي حيث كان منهن كاتبات وشاعرات أديبات كما هو مثال الحضارة الأندلسية خلال العصر الوسيط”ويعتبر التهامي الوزاني أن الشريعة الإسلامية قد أقرت بالمساواة بين الرجل والمرأة إلا ما هو خاص بالنساء لأنوثتهن في الطهارة والولادة وما رفع عنهن من القتال وغير ذلك.

وإذا كان التهامي الوزاني يدعو إلى تعليم المرأة وتحريرها من القيود البالية ، فإنه بالمقابل، اعتبر تعدد الزوجات أمرا عاديا بل وضروريا وذلك في نظره لنشر العلم وتخريج بضع معلمات للنساء يعلمنهن الأحكام الشرعية الخاصة بهن مما كان يستجيب أن يخاطب به النساء فيما كان يخضعن له من أحكام وموعظة .

إن تعليم المرأة إذن ليس مطلبا شخصيا للمرأة بل هو مطلب أساسي لنهضة المجتمع ، وهذا ما جعل التهامي الوزاني يشجع الجمعية الخيرية الإسلامية على استقبال الفتيات المشردات وإعطائهن شيئا من التعليم والصنائع حتى تصبح الواحدة منهن مؤهلة للقيام بنفسها وزوجها وأولادها …. لكن التهامي الوزاني يعترف بقوة تيار المحافظة في المجتمع التطواني بما فيها بعض الفئات المحسوبة على الوطنية، وربما كان هذا هو السبب الذي دفعه إلى تسجيل إحدى بناته واسمها ” فاطمة ليلى” بالمدرسة الأهلية حينما كان مديرا عليها……

                                                                                                                                   يتبع…..

ذ.ادريس بنيحيى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist