نافذة سياسية
الشعبوية اليسارية في القرن الواحد والعشرون
************************************************************************************
**** الحلقة الاولــى:الشعبوية اليسارية و اللحظة الشعبوية ****
مقدمة
ونحن بصدد قراءة متأنية لأرضية الاشتراكي الموحد والمعنونة ب”أرضية السيادة الشعبية” وهي أرضية “للنضال اليساري من اجل الديمقراطية والحفاظ على السيادة الوطنية.”… لاحظنا ورود الكلمات /المفاتيح : السيادة الشعبية، الديمقراطية ، السيادة الوطنية… والتي لها دلالاتها السياسية في اطار الصياغة العامة للأرضية وخطها السياسي الذي يتبنى “النضال الديمقراطي في أفق اشتراكي” و العمل على تحويل “الارادة الشعبية” كارادة جماعية إلى “سيادة شعبية” وبالانخراط في ” النضال العالمي من اجل عولمة بديلة” و في الحراكات الشعبية “لتحويل المطالب الشعبية إلى مكتسبات سياسية” عبر العمل على خلق “جبهة شعبية للنضال” من اجل تغيير موازين القوى في أفق ملكية برلمانية….
إن هذا الخطاب السياسي للحزب الاشتراكي الموحد والذي يجعل بمقتضاه “الشعب” في قلب الصراع ضد “الطبقة/النخبة” الحاكمة كتناقض رئيسي من اجل ترسيخ الديمقراطية الحقة حتى تتحقق “السيادة الشعبية”… هو خطاب شعبوي يساري بامتياز (بالمنطوق السياسي الحديث وليس القدحي المبسط) ،والذي تتميز به كل الاحزاب والحركات السياسية اليسارية الشعبوية “كبوديموس” “سيريزا” و”حزب العمالي لكوربين” و”فرنسا الأبية” بزعامة ميلونشون والتي برز نجمها خصوصا بعد االازمة العالمية سنة 2008 وخلال وبعد “الربيع العربي”. وتتقاطع هذه الحركات نسبيا مع اليسار الشعبوي بامريكا اللاتينية مع فوارق طبعا. ومن هذا المنطلق سنحاول فتح “نافذة سياسية” على شاكلة ” نافذة أوفرتون”السياسية لنناقش معا رؤوس أقلام هذه الظاهرة الإيديولوجية الكونية ولسبر اغوارها وتمفصلاتها مقارنة مع ما يمور في ساحتنا السياسية من تقلبات يحكمها جزر سياسي شامل، ونكوص ديمقراطي، وفساد النخب، وتشرذم لليسار مع اندلاع بين الفينة والأخرى لحراكات شعبية في كل بقاع الوطن…
إن هذه الظاهرة الكونية لا تقتصر على اليسار بل نجدها أيضا في أحزاب اليمين المتطرف طبعا مع فارق إن الشعبوية اليمينية والمتنامية في أوروبا تتهدد الديمقراطية وتتوعد العيش المشترك، وتنذر بالعداء بين الجماعات، وتقوم على شيطنة المجتمعات..” وهي تتنامى في كل من هنغاريا والسويد وإيطاليا، فضلا عن امتداداتها في فرنسا وغيرها…
إن مطالب التغيير السياسي والمزيد من الديمقراطية ، التي يدافع عنها كل من المجتمع المدني والحركات الاجتماعية ، بالكاد لديها خيار يتردد صداه في النظام السياسي خصوصا بعد الأزمة العالمية لسنة 2008. إذ حاول اليسار الاشتراكي، وتحديداً اليسار الراديكالي أن يتدبر أزمته لتحديد موقفه لصياغة مشروعه الأيديولوجي الذي يعيش أزمة جلية منذ سقوط الاتحاد السوفيتي عبر تبني خطاب سياسي عام يوظف ثنائية تقابلية من قبيل “نحن” نقيض “هم” أو “الشعب” نقيض “النظام” /”النخبة الفاسدة” كجوهر للخطاب السياسي لليسار الشعبوي لما بعد أزمة 2008، والذي من الممكن أن ينطبق ايضا على الحزب الاشتراكي الموحد كحزب تتقاطع الالتوجهات الكبرى لخطه السياسي اليساري مع اغلب الأحزاب اليسارية السالفة الذكر (بوديموس ،سيريزا، فرنسا الابية، …).
وعلى وجه التحديد ، قد يكون من المفيد التفكير في مفهوم الشعبوية وتحليل موقفها الأيديولوجي لليسار، ، بدلاً من تصور الشعبوية كظاهرة عامة عابرة للأيديولوجيات. طبعا قد تكون ثمة أوجه شبه ما ، لكن الاختلافات كبيرة أيضا و بعبارة أخرى ، يختلف التعبير الشعبوي بشكل كبير إذا كان يساريا أو يمينيا. وبالتالي فان الشعبوية اليسارية وتحليلها كمشروع سياسي تم تطويره منطرف اليسار الذي يعتنق الشعبوية اليسارية Left-wing Populism. لا يمكن اعتبار الشعبوية اليسارية أشكالا “خالصة” أو كالمكون الوحيد الذي سيحدد مسار اليسار مستقبلا .
جرت العادة كلما تم التطرق الى موضوع الشعبوية كلما شاب التشكيك في جدوى المصطلح بسبب معناه الغامض اكاديميا وسياسيا ، كما أن استخدامه بحمولة قدحية مزدرية و بشكل متكرر من اجل تشويه سمعة من نتمثلهم كشعبويين. كما لا يقبل العديد من السياسيين تعريفهم على أساس أنهم شعبويون، رغم كونهم يسارعون إلى تسمية خصومهم بالشعبويين. وعلى الرغم من رفض المفهوم ، بسبب عدم قدرته على تفسير الواقع السياسي ، إلا أنه وبالمقابل فقد عرفت “الظاهرة الشعبوية” غزارة في الأطروحات والأبحاث المرتبطة بالعلوم السياسية خلال العقد الأخير كموضوع للتفكير والنقاش السياسي.
وعموما قد نتفق مع (Mudde (2004 على تعريف حد أدنى للشعوبية على أنها “أيديولوجية مركزة”
«a thincentered ideology» التي استعملها (1996) Freeden تشطر المجتمع إلى شقين متجانسين ومتناقضين ،” الشعب الخالص ” مقابل ” النخبة الفاسدة “، مما يجعل السياسة تعبيرًا عن الإرادة العامة للشعب “. ولقد لقي هذا التعريف/ المفهوم “الأيديولوجية المركزة” صدى جيدا في العديد من البحوث السياسية التجريبية حول العالم (Jagers 2006 ؛ Mudde 2017 ؛Mudde 2004 ،Rovira Kaltwasser 2012) ، ويبقى من التعاريف الأقرب الى العديد من التعريفات المستخدمة في الدراسات و الابحاث السياسية الأوروبية (Arter 2010 ؛ 2008 Stanley) وبشكل متزايد ، في أمريكا اللاتينية (Cherith Ramirez 2009 ؛ de la Torre 2000 ؛ 2009 ، Hawkins 2010).
الشعبوية اليسارية واللحظة الشعبوية
ان نقاش “اللحظة الشعبوية” مرتبط هنا اساسا بالشعبوية اليسارية ، لذا وجب اولا توضيح كيفية ظهور “اللحظة الشعبوية” لننتقل لاحقا الى تعريف الشعبوية اليسارية كظاهرة سياسية. قبل الأزمة الاقتصادية ل2008 ، تم استخدام
فكرة روح العصر الشعبوي ” populist Zeitgeist “ لشرح ظهور الشعبوية المعاصرة ، في اليسار او اليمين الاوروبي على حد سواء. ولقد أشار Mudde (2004) في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ، إلى أسباب بروز اطروحة “روح العصر الشعبوي” وأشار إلى بعض التصورات ، وليس الحقائق ، حول الفساد المتزايد للنخب والفصل بين “الشعب” و “النخبة”. ” لم يُعزى هذا الاتجاه إلى اليمين فحسب ، بل إلى اليسار أيضًا. تحدث كل من March و Mudde عن “الشعبوية الاجتماعية”“social populism” لوصف الأحزاب التي “اتسم موقفها الأيديولوجي بقبول الاشتراكية الديمقراطية والديمقراطية البرلمانية ورفض الرأسمالية”. إلا انه ومن الناحية المبدئية تعرّف هذه الأحزاب على أنها يسارية راديكالية ، فإن الانفتاح على المساواة وعلى “الطبقة البروليتارية” ومعاداة النخب الفاسدة يرتبط بالشعبوية ، فضلاً عن استكمال التحليل الطبقي بقضايا الهوية ، بما في ذلك تلك المرتبطة بحقوق الاثنيات والحس الوطني.(2020 Garcia )
من المهم أن نلاحظ أن التحول من اليسار الراديكالي إلى اليسار الشعبوي هو ، إلى حد ما ، نزعة سابقة لأزمة عام 2008. وفي الواقع ، هناك استمرارية الشعبوية اليسارية قبل الأزمة وبعدها ، رغم حقيقة أزمة الديمقراطية التمثيلية وتنامي الحراكات الشعبية والاحتجاجات الاجتماعية بعد 2008 و التي ارست أجندة وأولويات الأحزاب اليسارية. باختصار ، حتى عندما كانت الشعبوية اليمينية المتطرفة هي المهيمنة ، كان اليسار الراديكالي يعتنق فعلا بعض المبادئ الشعبوية. ومن دون الادعاء بتقديم وصف شامل “للحظة الشعبوية “(التي تكثفت في أعقاب أزمة 2008) ، الا ان هذه العناصر تبقى ذات اهمية لفهم التحول اليساري إلى الشعبوية. وتتمركز هذه العناصر الثلاث (انظر اسفله) حول تناقص القدرة التمثيلية للأحزاب السياسية. بينما يؤكد العنصران الأولان على إنتاج المصالح المشتركة بين الأحزاب والفاعلين الاقتصاديين مع استبعاد مطالب الشعب ، بينما يروم العنصر الثالث إلى تعزيز المشاركة والتمثيل الديمقراطي .
أزمة النظام الحزبي . ان تحويل الأحزاب السياسية الى “كارتيلات حزبية” متطابقة
(Katz and Mair، 2018) مادامت تمول من طرف الدولة ، لاعادة إنتاج نفس نمط السلوك السياسي للدولة، وبالمقابل يحافظ السياسيون على مصالحهم الخاصة ، وهكذا تتعاون الأحزاب فيما بينها (فنلاحظ أن اليمين يصوت على اليسار والعكس بالعكس) .وبالتالي تتوقف ال “كارتيلات حزبية” عن تمثيل مطالب الناخبين ، ويفقد التنظيم الحزبي خارج البرلمان مصداقيته (Müller ، 2000).
الفساد المؤسساتي . تطرق (2004) Mudde في تعريفه للشعبوية تطرق الى تناقض “الشعب الخالص” مع “النخبة الفاسدة”.واشار الى إن استعمال كلمة “خالص” كصفة لل”الشعب” أمر مشكوك فيه، لكن وصف “النخبة” على أنها “فاسدة” يتطلب تعريفًا أكثر تفصيلاً لماهية الفساد. اذ يمكن تبني مفهوم أدق ك”فساد التبعية” ، الذي صاغه Lessig (2011) ، فيما يتعلق بهذا التعريف. وبالنسبة للورانس فإن المشكلة الأساسية للحكومة هي تبعية الحكومة لممولي مصالحها الاقتصادية. اذ لا يتعلق الفساد بانتهاك القوانين الجنائية، بل يتعلق بالتبعية عبر ممارسة الحكم من طرف الأحزاب السياسية في الحكومة لصالح النخب الاقتصادية التي تمولها.
الحركات السياسية . قد يكون من الخطأ اعتبار الثورات والاحتجاجات الاجتماعية ، التي زادت بشكل كبير استجابةً لتطبيق سياسة التقشف ، خطرًا وليس ضرورة ، كما يقول (2013) Hoby (الخطر أو الضرورة) هي الطريقة التي يتم بها التعامل مع الثورات الاجتماعية سياسيًا من حيث التنظيم والقيادة والرؤية والاستراتيجية.
تُظهر هذه الميزات الثلاث صورة شاملة لكيفية كون أزمة التمثيلية الديمقراطية أساسية للاقتراب من اللحظة الشعبوية وسبب تبني الأحزاب اليسارية للشعبوية أو الاستراتيجيات الشعبوية. ومع ذلك ، فإن القضية الرئيسية المطروحة هي ما إذا كانت الشعبوية هي السمة الرئيسية للاجابات الجديدة القادمة من اليسار واليمين. وبعبارة أخرى ، هل الشعبوية هي المحور السياسي المركزي (“الشعب” نقيض “النخبة” ، القاعدة نقيض القمة) في الصراع السياسي؟ إذا كان الأمر كذلك ، فماذا يحدث للمحور التقليدي يسار / يمين؟.. دافع Mouffe عن “اللحظة الشعبوية” باعتبارها ظرفًا يتبنى فيه اليسار واليمين استراتيجية شعبوية. يُعَرِّف Mouffe “اللحظة الشعبوية” بأنها “تعبير عن المقاومة ضد حالة ما بعد الديمقراطية التي كرستها 30 سنة من الهيمنة النيوليبرالية” (Mouffe 2018). وستسمح الأزمة النيوليبرالية بتشكيل بنية مهيمنة جديدة يمكن أن تطور سياسات أكثر ديمقراطية أو استبدادية.
من الواضح أن التوقعات من منظور اليسار تروم تعميق الديمقراطية ، الا ان ارتباط “الشعبوية” بالاستبداد أمر شائع في النقاش العام والأكاديمي. وليس من المستغرب أن تزعج هيمنة “الشعبوية” في صياغة مشروع يساري بعض الكتاب اليساريين. ويخلصButler (2017) الى مدى عدم جدوى مقارنة كلا النوعين من الشعبوية . يمكن أن تؤدي الشعبوية اليمينية إلى الفاشية ، بينما يجب أن تؤدي الشعبوية اليسارية إلى ديمقراطية راديكالية. وبالتالي ، يجب أن يُنظر إلى الشعبوية اليسارية ، في المقام الأول ، من منظور اليسار ، وبشكل مكمل ، وكجزء لا يتجزء من اليسار وتساهم في اعادة تقعيد ممارسات اليسار
مراجع
Arter, D., (2010). “The Breakthrough of Another West European Populist Radical Right Party? The Case of the True Finns.” Government and Opposition 45 (3) . 484–504
Butler, J., (2017). Interview with Judith Butler. In C. Daumas, Un populisme de gauche doit conduire à une démocratie radicale. Libération, January 20. Retrieved from https .//www.liberation.fr/debats/2017/01/20/judith-butler-un-populisme-de-gauche-doitconduire-a-une-democratie-radicale_1542916..
Cherith Ramirez, L., (2009). “A New Perspective on Bolivian Populism.Unpublished MA Thesis, University of Oregon
de la Torre, C., (2000). Populist Seduction in Latin America . The Ecuadorian Experience. Athens . Ohio University Press.
Freeden M. (1996). Ideologies and Political Theory . A Conceptual Approach. Oxford . Clarendon.
Agustín, Ó. G., (2020). Left-wing populism. The Politics of the People. Emerald Publishing Limite Howard House, Wagon Lane, Bingley BD16 1WA, UK First edition 2020
Hawkins, K. A., (2009). “Is Chávez Populist? Measuring Populist Discourse in Comparative Perspective.” Comparative Political Studies 42 (8) . 1040–67.
Hawkins Kirk, A., (2010). Venezuela’s Chavismo and Populism in Comparative Perspective. New York . Cambridge University Press.
Hoby, J., (2013). Fagbevægelsen i lort til halsen. Modkraft, March 31. Retrieved from http .//modkraft.dk/blogindl%C3%A6g/fagbev%C3%A6gelsen-i-lort-til-halsen.
Jagers, J., (2006). “Stem van het volk! Populisme als concept getest bij Vlaamse politieke partijen.” Unpublished PhD thesis, University of Antwerp.
Katz R.S., and Mair P., (2018). Democracy and the cartelization of political parties. Oxford . Oxford University Press.
Lessig, L., (2011). Republic, lost. How money corrupts congress – and a plan to stop it. New York, NY . Hachette Book Group.
Mouffe, C. (2018). For a left populism. London . Verso Books.
Mudde, C., (2004). The populist Zeitgeist. Government and Opposition, 39(4), 541–563.
Mudde, C., (2017). SYRIZA . The failure of the populist promise. Cham . Springer International
Mudde , C., and Rovira Kaltwasser C. (2012). Exclusionary vs. inclusionary populism. Comparing contemporary Europe and Latin America. Government and Opposition, 48(2), 147–174.
Müller , W. C., (2000). Political parties in parliamentary democracies . Making delegation and accountability work. European Journal of Political Research, 37, 309–333.
Stanley, B., (2008). “The Thin Ideology of Populism.” Journal of Political Ideologies 13 (1) . 95–110