نتصور أن الحوار في حد ذاته يعني الاشتراك في لغة ومنطق. وأن العامل المشترك المسمى عادة بالعقل، قد عمل مسبقا على نقض وتجاوز كل الفوارق والمميزات العارضة. تطفو على السطح، من حين لآخر، تلك الفوارق في شكل نبرة أو لفظ أو عبارة أو مفهوم أو حركة. نسجل تلك العلامة العابرة في اللاوعي ثم نتابع الحوار…هذا المسكوت عنه، الموضوع بين قوسين، أوَ ليس هو المتحكم فيما نفكر ونقول؟” (عبد الله العروي، ديوان السياسة، ص 7)
ينطلق الفكر السياسي الغربي الحديث (منذ القرن 16) من وجهتي نظر. وجهة تعتبر السياسة هي فن توظيف النوازع (المتحدث عنها أعلاه)..يعطي العروي المثال بماكيافيللي وهوبز ومونتيسكيو، ينعتهم العروي بالواقعيين. ثم وجهة تجرد السياسة عن النوازع وتتخذ العقل مجردا بوصلة لتحديد ما يجب أن يكون، وأمثلة العروي ها هنا سبينوزا ولوك وروسو. وينعتهم بالمثاليين (ص 7 و8). ويعتبر الحداثيين العرب(ربما يعني اليساريين الماركسيين) كونهم من الصنف المثالي الثاني.
عندما نتأمل في هذه الفكرة المحورية من كلام العروي حول ديوان (= دفتر، مكتب، قوانين، عقل، قيادة…) السياسة، ربما نكتشف في باطن عقله لماذا دعى إلى التاريخانية. أي ربط منظورنا العقلاني اليساري بمسيرة تاريخنا الذي تشحنه النوازع. كي نفرز الجوانب الذاتية (=النوازع) التي تحكمت (بسبب نقص العقلانية المتجردة) في سعينا (من جانب الآخر ومن جانبنا)، ونعيد تشكيل برنامج التغيير، بفرز مسبق ما يعرقل ذاتيا عملنا (وهو ما يقتضي ثورة ثقافية لصناعة الانسان اليساري) عمّ يعرقل موضوعيا عملنا (وهو ما يقتضي العراقيل الموضوعية التي لم نقرأها من قبل ولم نتبيّن قدرتها على عزلنا) حتى نصبح قادرين على تحديد التنظيم المناسب (وأساليبه وطرقه) وتحديد التحالفات (على درجات استخراج النفع من كل صنف) وترتيب فقرات البرنامج السياسي، ونميزه بدوره عن المشروع المجتمعي الأشمل.
+++
بعد فشل تجربة توحيد اليسار المعارض، وبعد تلخيص عقدين من الزمن في “اللاشيء” تقريبا، من المفترض رسملة التجربة نفسها، بفهم دروسها، وتجاوز ما لم نستطع تجاوزه من قبل. فاليقين الذي عادة ما نلصقه بأنفسنا من كوننا “عملنا للي فجهدنا، ولكن ما جابش الله”، يستند على منطق مثالي ذاتي، كون العالم لا يوجد سوى وفق النظرة التي نحملها عنه، وكون نيتنا حسنة وأساليبنا جيّدة وأهدافنا منطقية وموضوعية قابلة للتحقيق.
طبعًا نيتنا سليمة وأهدافنا منطقية وموضوعية وقابلة للتحقيق ولكن الأساليب كي تكون جيدة تشترط النتائج الجيّدة. فلا أساليب جيّدة مع نتائج الفشل. جودة الأساليب إن لم تتحقق النتائج الجيّدة محكوم عليها بالرداءة. هذا استخلاص أول. أما الاستخلاص الثاني، فهو ضرورة الصعود لما قبل الأساليب في المسلسل، إن تمّ التأكد من سلامة الأساليب. لكن جودة الأساليب ليست رهينة بالأساليب نفسها. لا يُحكَمُ على جودة الأساليب إلا بمعية صحة النظرة للتنظيم وللتحالفات ولملاءمة الأهداف في السياق العام.
كم من إطار خبير جيّد فشِلَ في إنجاز المهام الموكلة إليه. لماذا؟ لأنه غير مناسب لتنفيذ تلك المهام بعينها. فلا هو رديء ولا المهام غير مناسبة. هذا ما يدعو الى التأمل في ما سماه العروي بالنوازع. وإذا تيقّـنّا من جودة المهام وجودة المكلف ورغم ذلك حصل الفشل في إنجاز المهام، من المفروض أن نراجع العلاقة بين المهام والمكلف بتنفيذ المهام. إذن نستخلص أن الحصافة التنظيمية لا تكتفي بالتوصل الى تحديد مهام جيّدة والتوفر على الأطر الجيّدة. بل الربط بين المهام وبين الأطر ما يقتضي خبرة ميدانية تستخلص عبر الممارسة. اختيار اللغة وبالتالي انتقاء الخطاب، ومن تمّ التكتيك (تجزئ المهمة الى مهام فرعية، التصرف في لائحة المطالب بالزيادة والنقصان) واختيار التوقيت وبالتالي انتقاء اللحظة وطبيعتها (العلاقات العامة، الجلسات غير الرسمية) حسب الطرف الثاني (مَنِ اختيرَ للتفاوض من الجانب الآخر، ما هي الإكراهات الطارئة على الخصم تجعله يرجئ الإنصات إلينا الى وقت آخر).
+++
لا بد من تسجيل تدهور العقل السياسي لدى اليسار من تحول الأطر القيادية وتجاربها في المعترك النضالي كمعطى عيني ملموس. لماذا تفوق الاتحاديون (ومعهم بن سعيد آيت يدر) فيما مضى عمن سواهم؟ لأنهم أتوا من اللحظة الوطنية الاستقلالية، ثم انخرطوا في لحظة ديمقراطية جدّدوا دماءهم لخوض غمارها، وهم في جميع الحالات كانوا على مقربة من القصر، أي في المربع الأول لصياغة القرارات الكبرى، بما فيها القرارات السيادية. التذكير بهذه العوامل التي أفرزت قيادة اتحادية منافحة للدولة، يساعد القيادات الجديدة لليسار على أخذ الشغل السياسي في تعقيداته الفعلية بعين الاعتبار، وبالتالي يجدد قدرة القيادات اليسارية الحالية على استيعاب العملية السياسية ككل بدل تفكك المنظور اليساري وانقسام بنيته المجتمعية إلى تيارات منفصلة.
وفشل الفيدرالية أظهر الفهم المتبادل المغلوط عن السياسة اليسارية كما ينبغي أن تتجلى في التنظيم الفيدرالي أو الكونفدرالي في القرن الواحد والعشرين. فلا الاتحاديون (أغلبيتهم وليسوا جميعا) تجاوزوا فهمهم للاندماج الممركز بلا تيارات ولا اليساريون السعبينيون والثمانينيون فهموا ما جاءوا به كجديد في الساحة اليسارية= التنظيم الجبهوي الفيدرالي (جبهة الطلبة التقدميين في أوط م). وبقيت النوازع خفية مقابل اللعب على تكتيك جر الآخر الى الهدف الخفي. كان الخطأ البيّن تبني فكرة “الحزب الاشتراكي الكبير” الذي ما كان يوما هو التجسيد الفعلي “للخط الثالث” الذي نسيناه وكان على صواب. وظهر من بعد أن ترديد الخط الثالث لم يكن سوى صيغة للجر نحو التنظيم المركزي السابق الذي يخفي الهيمنة ويضرب الديمقراطية الداخلية – بصيغها الجديدة- في العمق (=الحق في التيارات).
ومن حق الحزب الاشتراكي الموحد أن يعيد شعار الخط التنظيمي الثالث لليسار، أي ليس الحزب المركزي الواسع بلا تيارات في الديمقراطية الداخلية، وليس الحزب الماركسي الستاليني المغلق.
في السياسة اليسارية الجديدة على الصعيد العالمي نجد الثورة الالكترونية الجديدة، أفرزت مستويين من العمل الجماهيري سندا للديمقراطية السياسة. المستوى الناضج حيث البلدان الغنية بالتجارب السياسية التعددية (أمريكا اللاتينية) الذي لعبت فيه الحراكات الشعبية دور الماكنة المحورية لتجديد السياسة الوطنية برمتها. والمستوى المتوسط الذي لعب اليسار دور النواة التنظيمية لدعم الحراكات الشعبية وهو ما يوسع دائرة الحقوق والحريات ويفشل برامج السلطة لتصليب الانغلاق= دور اليسار في حركة 20 فبراير أفشل مشروع البام بكامله.
من هنا لنا رصيد ضمن الخط الثالث. فنحن لم نزك مشروع البام من البداية الى اليوم، ولسنا ضمن الطبقة السياسية العتيقة التي جددت مدة صلاحيتها المنتهية لملء فراغ البام.
سنة 2015، بعد الانتخابات المحلية وكذا انتخابات 2016، تحدثت أفرز النقاش العام على بلاطوهات الإعلام الرسمي احتمالات الدور الملفت المنتظر للفيدرالية، لكن عناصر النضج الداخلي كانت تعاني من غدد المرض اللعين، الذي يشخصه العروي بغلبة النوازع المسكوت عنها.
هل يسلم الحزب الاشتراكي الموحد من النوازع بعد الانشقاق وفشل اليسار الفيدرالي في التحالفات ويسار التيارات في الديمقراطية الداخلية؟
مرة ثانية، النزوع المركزي في نفسية اليسار هو نفسية الخوف من الآخر. تفرز ذاتيا نفسية الضحية، وتفرز جماعيا نفسية التنافس القاتل وليس التنافس المنتج لتكافؤ الفرص. وهو مرض مجتمعي لم يفلت اليسار حيث يتموقع الاشتراكي الموحد من غدده النهمة. الله يعمر قلبنا بالله ويلاقينا مع للي أحسن منا. والسلام على من تعامل مع النوازع بعقلانية تاريخانية منتجة وليس بمنطق أنا ومن بعدي الطوفان.