جرى، بعد مدة طويلة، أن التقى صديقان، تعارفا من قبل في قسم الباك. افترقا في الحركة الطلابية. كل في فصيل. ثم اتخذ الصراع بينهما كل أشكال الخصام.
لاحظ صديقه أن الإخواني حلق اللحية، وغيّر نوعية اللباس… ضحك اليساري وهو ممدد فوق السداري. فسأله صديقه الإخواني: عمّ تضحك؟ فأجابه: لاحظتُ أنك لأول مرة تدخل الإسلام. استغرب واستنكر وسأله: كيف دخلتُ الإسلام؟ كنت دائما مسلما وداعما الحركات المجاهدة؟ ردّ اليساري: نعم كنت تتوهم أنك تدعم كشمير…لكنك اليوم أراك تدعم فعلا كشمير. علق المناضل الاخواني السابق: كيف؟ قال صديقه ألا ترى أنك تدعم منتوجات كشمير القطنية؟ أنت اليوم لابس تريكو كشمير. وهو الدعم الفعلي لكشمير.
غيَّر الطالب الإخواني السابق الموضوع، تساءل الصديقان عن أحوال العائلة والعمل وعن تحولات العلاقات الاجتماعية وسأل صديقَه الطالب اليساري السابق: منذ عشرة أيام، في المقهى، كنت أسترق السمع لما تقوله، إذا بي سمعتك بل واستدرت لأراك تضحك من قلبك وأنت تردد على سمع صديقيك الآخرَينِ أن سبينوزا شماتة؟ كيفاش حكايتك مع سبينوزا الشماتة؟ ثم يضيف الطالب الاخواني السابق: لعلمك، أنا دائما كنت معجبا بسبينوزا وما زلت أكن له الاحترام لأنه يؤكد رأي الإسلام في اليهود كونه خرج من ملتهم لأنهم حرّفوا دين سيدنا موسى.
ضحك الطالب اليساري السابق وأردف: الصدف التي تظهرنا على النقيض من قناعاتنا هي نتيجة للجهل بأصل الأشياء.
قطّب الطالب الإخواني السابق، وهو ينفض براز طير علق بكُمّ تريكو كشمير الذي يلبسه، وإيماءات وجهه تسأل: كيف؟
نعم، أعتبرُ سبينوزا ضمن الشماتة بالوقائع العلمية أي التي يثبتها التاريخ والدين. ليكن في علمك….ألسي الفقيه المتدين جدا…وهنا مرة أخرى، علينا أن نحفر في طبقات اللغة التي نتكلمها… نتساءل مثلا لماذا تشترك العربية والاسبانية والعبرية في النطق بحرف الخاء دون باقي لغات العالم. وذات مرة كان صديقي يمزح بنوع من الجد وله هذا الهوس باللغة تأثرا من بعض أصدقائه حول اللغة، فكان يردد أن لغتنا العربية تشترك مع العبرية في بعض المفردات والحروف لأنهما معا بنات الآرامية ولهم خالة في العراق الأكادية. وبدأت تنفصل العبرية عن العربية والعربية عن العبرية لظروف العيش طيلة 3000 عام. فكلمة شكرا مثلا، من الماضي السحيق عندما كان السكر لحظة يعتقد الناس أن خالق الكون يهبها للناس لإبعادهم عن الحسابات الدنيوية الأنانية وليرتفعوا بواسطة السكر إلى ملكوت السماء، فكان أفضل التمنيات التي يأملها الصديق لصديقه هو أن يرفعه الخالق الى ملكوت السماء، ولأن مخارج الحروف انزلقت شيئا فشيئا…مثل القاف غينا والغين قافا والجيم قافا بثلاثة نقط والجيم المصرية والقاف المصري الذي تحولت همزة والذال المعجمة التي حولها المصريون زايا… الخ..الخ..الخ
فصار الدعاء بالسكر الى مجرد تأدب اجتماعي بالشكر. مثل ما تحولت بلاد سام بن نوح إلى بلاد الشام…
علق الطالب الاخواني السابق على صديقه الطالب اليساري السابق: هذه المقدمة الطلالية كادت تتحول إلى مقدمة ابن خلدون. ولكنك عجزت عن تبرير كيف أصبح لديك سبينوزا شماتة؟
الشماتة ككلمة دخلت اللغة العربية هذه حكايتها في حالة خروج سبينوزا من طائفته اليهودية البرتغالية التي هربت من محاكم التفتيش الى هولندا. لنقرب الاذهان من كلمة الشماتة في الأصل ولاستعمال.
عندنا، توجد الكلمة في مستويين من اللغة العربية:
الشماتة مع استعمال الحركات لشكل الكلمة حسب ما تقتضيه القواعد من سكون وحركة، مع تشديد حرف الشين عند وجود حرفي التعريف (أل) في اللغة الفصحى الكلاسيكية، وتعني من جملة ما تعني، وضعية مستفزة، تدعو إلى الاستنكار ورد الاعتبار، حسب تموضع الحالة، اجتماعيا أو قضائيا، أو قبليا باعتبار الكلمة تنتمي لذهنية القرون الوسطى ويكاد يتبعها الانتقام وأخذ الثأر.
والشماتة في الدارجة المغربية وهي نعت لمن يسمح بإهدار كرامته ولا تكون لديه غيرة اجتماعية في مجالي النفس والعرض ضمن المقاصد الخمسة للشريعة (العقل، الدين، المال). فالشخص الذي يهمل كرامته لنفسه أو محيطه والذي يظهر إهمالا تاما للمسؤولية هو اشماتة.
تنطق الكلمة في العربية الفصحى بحركة حرف الشين، بينما تنطق في الدارجة المغربية بتسكين حرف الشين.
نأتي الآن إلى رد الكلمة (الشماتة) إلى نقطة الانتقال في تاريخ اللغات. ولأن العربية والعبرية، من نفس السلالة اللغوية، ولأن الديانة اليهودية أقدم من الإسلام، لذا، عندما نقلب الكلمة في المعاملات الإسلامية نجد تقليد “تشميت العاطس” في الإسلام، وفي المنطقة العربية والمغرب ضمن تقاليدها الإسلامية، لدينا احتمالان: إذا عطس الشخص وأتبع العطسة بعبارة “استغفر الله”، على الحضور الواجب الأخلاقي إرداف عبارة العاطس بعبارة “رحمك الله”. وإذا لم يستتبع العطس بالاستغفار لم يجب على الحاضر دعاء الاسترحام لفائدة العاطس.
غالبا لا تترك الآداب الاجتماعية للأفراد فسحة زمنية للتأمل، وهم يرددون آداب المعاملة. لأن تلك العبارات لها رمزية خلقية، تعكس نوعية التنشئة الاجتماعية وتؤشر على مدى إلمام الأسرة لطقوس المعاملة في المجتمع المحلي.
بينما لو بحثنا فيما نحن بصدد ترديده كل يوم، كما يلاحظ باحث فرنسي، يقول قلب كوبيرنيك رؤيتنا للواقع الفلكي وطوينا صفحة بطليموس. وأصبحت قناعتنا بحركة الأرض حول الشمس ضمن مسلمات عموم الناس. ومع ذلك، نتحدث في الكلام اليومي: الشمس شرقت، الشمس غربت، ومخيلتنا تشتغل كما لو كانت الأرض ثابتة والشمس تدور حولها.
إذا عدنا لكلمة الشماتة ولتشميت العاطس، نجدهما معا في الديانتين اللتين وجدتا قبل الإسلام: اليهودية والمسيحية.
الشماتة موجودة عند اليهود، وتشميت العاطس موجود عند المسيحيين.
الشماتة عند اليهود حكم نهائي يصدره حاخام الطائفة في حق كل من لم يعد يتوفر على معايير الانتماء الى الطائفة. والحالة الشهيرة فيمن تتداوله الألسن في العالم أجمع حالة سبينوزا. وذلك بسبب ما كتب بصدد الأديان وخصوصا الدين اليهودي الذي تنتمي أسرته لطائفته في أمستيردام بهولندة، بحيث أصدر الحاخام بعد التداول في أمره، وعمره خمس وعشرون سنة، عقوبة أولى تقضي بمقاطعة الطائفة لسبينوزا مدة زمنية معينة حتى يهديه ياهوه الى التوبة والاعتراف بالخطأ. فانتهى أجل العقوبة الأولى ولم يستجب سبينوزا لمقتضيات حكم الحاخام، ثم استأنف الحاخام درجة ثانية من العقوبة ضد سبينوزا المتهم بالهرطقة، ولما لم يستجب ولم يُطِع أمر الحاخام في الدرجة الثانية من عقوبة العزل التحذيري، بعد انتهاء الآجل، حاولت الطائفة استدراج سبينوزا… لحفظ وحدة الطائفة وسمعتها، بتخصيص أجر سنوي ليتظاهر بالعودة الى مراسيم الطائفة… رفض سبينوزا “الرشوة” الطائفية وأصر على قناعاته.
عندها قرر الحاخام القيام بإجرائين: إجراء تحريض الحاكم الهولندي المسيحي في امستيردام كي يصدر قرارا بنفي سبينوزا من المدينة، والإجراء الثاني تفرضه الشريعة اليهودية في الدرجة الثالثة الأخيرة ضمن العقوبة ضد المطرود من الطائفة وتحمل الدرجة الأخيرة من طرد المتهم، اسم “الشمّاتة”، بتشديد الميم.
لكل هذه الحقائق في حياة سبينوزا، فهو في حكم طائفته اليهودية التي خرج عقيدتها الدينية استحق حكم الطرد النهائي، أي شماتة.
وللتفكه في الأمور الفلسفية وتقريب أفكار القرن 17، من نقاشاتنا اليومية اقسم وأؤكد أن سبينوزا شماتة… ولأن بعض أصدقائي يدرسون الفلسفة ولم يطلعوا على النص الفرنسي حيث الكلمة بالحروف اللاتينية كما يلي
لذلك، نلعب على تأويل الكلمات وفق السياقات المثبتة في المراجع والمصادر الموثوقة.
أخيرا علّق الطالب الاخواني السابق: وما سبب اهتمامك بصديقك سبينوزا الشماتة في هذا التوقيت المشبوه؟
أجاب الطالب اليساري السابق: لفرز الدقيق من النخالة. فالأوراق الأكثر خلطا من جميع الأطراف في جميع الأوجه هي أوراق فلسطين. ومن باب التضامن مع الفلسطينيين، مراجعة القصص التي نستهلكها بسهولة وتقليد، لدرجة سهل على الغرب أن يقدم لنا في كثير من الأوقات السم في العسل.
عندنا دولة إسلامية نووية ولا الغرب يوما أخاف العالم من قنابلها النووية…ولا هي اليوم تبذل جهدا في التوازن الاستراتيجي بين الفلسطينيين العزل وبين إسرائيل النووية. هذه الدولة هي جمهورية باكستان الإسلامية، بذكاء العقلية الاستعمارية المتقدمة، قررت إنجلترا تقسيم الهند في غشت 1947، ليسكت المسلمون عن تقسيم فلسطين في نوفمبر 1947، وبعدما اتضح أن إسرائيل أصبحت قوة نووية، باسم التوازن ضد الهند سمح الغرب لباكستان أن تصبح نووية. مرة أخرى ليفتخر المسلمون بباكستان النووية وينشغلوا عن فلسطين المحتلة من طرف كيان نووي. والذين قرأنا لهم بعد طوفان الأقصى بإمكانية تحرير كل فلسطين بعد تكامل حركات المقاومة مع الجيش الرسمي العربي، نذكرهم بما كتبه جوزيف سماحة (لمن يتذكر بيروت المساء) كتابا “سلام عابر” (1993)، أن الغرب منع على الجيش العربي النظامي احتمال هزم إسرائيل منذ اليوم الذي سمح لإسرائيل ان تصبح قوة نووية. وللحديث حول الأوراق المبعثرة بقية.
.