الثلاثاء, يناير 7, 2025

مراجعة الفكر اليساري (2)

أحمد الخمسي

صنع الحدث من طرف الدولة

وفق رمزيات الذاكرة المدققة بأرقام التواريخ

أحمد الخمسي

     عندما أقرأ مقالات السي محمد صلحيوي، أخاف مما أكتب أن يسري علينا جميعا، الانغلاق في زقاق ضيق بلا مخرج للطريق العام من جهات ثلاث في آفاق المغرب ومن تم العالم.

فكأنني منغلق في الزقاق حيث حوانيت فكرية تزعم أن لا علاقة لها بالدكاكين المجاورة. إذا بي، وقد ألقيت نظرة على مجمل الأفكار التي يطرحها (ما بعد المؤتمر الخامس) تعيد رسم الخريطة الضيقة التي يملأها بالألوان. فالفكر السياسي الذي يتردد عبر سطوره لم يخرج من “الحضانة” التي أنشأتنا داخلها الحركة الوطنية في الجناح اليساري من جيل أحفاد السبعينات.

ننزل كثيرا عن السقف الذي كرسه مثقفو وقيادات الاتحاد الاشتراكي أيام العز ومنظمة العمل في الثمانينات. والحال أن صلحيوي ليس أسوأ من يكتب جهة اليسار اليوم، لأنه يتأمل يراجع ويكتب، في زمن لم تعد لليساريين كتابة. كما لو أن اليسار انتهى. في فرنسا، يظهر أن اليسار الأوربي وهو يراجع الأسلوب الطبقوي الاقتصادي القديم يبدو غريبا. بينما ميلونشون يمثل اليسار المفتوح العين جيدا على تناقضات عالم اليوم، الموروث عن تخبطات الاشتراكية الستالينية.

من جهتي، لدي فكرة أخرى، على هامش رقم 1908 موضوع المقال السابق.

موضوع مقال اليوم هو استخلاص رمزية أرقام التواريخ كأسلوب لدى الدولة لبعث الرسائل الاستراتيجية المشفرة.

من خلال تلك الرمزية حيث أرقام التواريخ، لا تحتاج الدولة ثرثرة لفظية لتعبر أن لديها وعي تاريخي. ولا تناقش التاريخانية لا لتثبيتها مثل العروي ولا لنفي منعتها مثل كارل بوبر.

فقط تبعث بالرسائل إلى حلفائها الكبار على الصعيد العالمي لتبلغهم أنها تعرف ما تفعل. وتتقن الوعي بدروس التاريخ.

توقفت عند بعض التواريخ التي سجلت فيها الدولة أحداثا مفصلية.

عندما تشكلت أول حكومة بعد رجوع محمد الخامس من المنفى في 16 نوفمبر 55 من القرن الماضي، تم تنصيب الحكومة المؤقتة يوم 7 دجنبر من نفس السنة. ولأن الدولة نظام ملكي، أرادت أن ترسل إلى الغرب أنها من طراز الملكية اليابانية من حيث الرسوخ والخلطة بين المحافظة والتحديث، ولكنها ليست متهورة مثل ما فعل اليابان عندما غامر طيرانه وهاجم بيرل هاربر يوم 7 دجنبر

ولم يفت الراحل الحسن الثاني وهو يمرر دستوره الممنوح الأول سنة 1962، أن يسجل استكمال مساطر الاستفتاء عليه يوم 7 دجنبر 1962.

والمرة الثالثة التي رصدت الدولة 7 دجنبر لتصنع حدثا ما، كان في سنة 1976، عندما كان اليسار السبعيني في السجن في الحراسة النظرية التي طالت مدتها، تم خوض إضراب لا محدود عن الطعام من طرف المعتقلين. وذلك خلال أكتوبر من تلك السنة، أفرزت إدارة السجون بين المعتقلين 10 مفاوضين، اثنين من مجموعة 26 القيادية جاء منهم جبيلة رحال ومحمد السريفي (الروخو). ومن مجموعة 79 ثمانية كنت واحدا منهم. اتفقنا مع إدارة السجون على تلبية مطالبنا وفك الاضراب. نحن مجموعة 105 الذين تم الافراج عنهم، كان ذلك يوم 7 دجنبر.

لنرجع إلى شهر نوفمبر. تمت إقالة ادريس البصري بعد تولي الملك محمد السادس مقاليد العرش، وذلك يوم 9 نوفمبر 1999. 9 نوفمبر المغربي هذا ثالث حدث كبير بعد حدثين أكبر حجما بسبب الانعكاسات الدولية بل العالمية التي تمخضت عنهما.

9 نوفمبر 1799، لنلاحظ هنا (99) آخر سنة من القرن 18، عندما صعد نابليون بونابرت الحكم في فرنسا. وكان هذا اليوم في التاريخ الفرنسي يوم إنهاء عشر سنوات من الثورة الفرنسية بمراحلها الثلاث: ثورة بلا جمهورية وثورة جمهورية دموية (1792-1795) وجمهورية بلا ثورة، مرحلة الديريكتوار (1795-1799). فتاريخ فرنسا قبل نابليون ليس هو تاريخها بعد نابليون.

9 نوفمبر 1989، عندما بدأ شباب ألمانيا في هدم الجدار الفاصل بين الألمانيتين الغربية والشرقية علامة انتهاء الحرب الباردة. وما كان للاتفاق بين ميتران وهيلموت كول ساعتها دون ترتيبات جزئية رمزية، تستفيد منها فرنسا رمزيا (9 نوفمبر الفرنسي) وتستفيد منها ألمانيا فعليا بإنجاز وحدتها الوطنية. هكذا نرى أن إقالة ادريس البصري يوم 9 نوفمبر 1999، كانت رسالة إلى الغرب كون المغرب يخطو عتبة ما بعد دكتاتورية الوزير الأعظم السابق.

لنعد إلى أكتوبر، ولا أحد يمكن أن ينسى أن اختطاف المهدي بنبركة تمّ في باريس يوم 29 أكتوبر 1965. جرى ذلك في وضع مضطرب في المغرب بعد أحداث الدار البيضاء منها الأوج الدموي في 23 مارس. فاختطاف المهدي بنبركة يوم 29 أكتوبر يؤرخ لذكرى مصطفى أتاتورك الذي ألغى الخلافة العثمانية سنة 1924 في نفس اليوم ونفس الشهر. لذلك كان الحدث المغربي المأساوي أن المغرب لن يترك الطريق مفتوحا لمن يريد إنجاز ما فعله مصطفى كمال بإلغاء إمارة المؤمنين كمكون من مكونات الدولة المغربية.

طبعا لا أحد انتبه الى رمزية اليوم الذي تم فيه اختطاف الشهيد، بحيث لم يجر نقاش من هذه الزاوية قط.

ثم رقم أخير وهو العشرية الأخيرة من شهر ماي. رد الراحل الحسن الثاني بتثبيت النظام الملكي سنة بعد إسقاط الملكية في ايران سنة 1979. كانت موضوع تعديل الدستور بتغيير تركيبة مجلس الوصاية وسن الرشد لولي العهد. وكان الاستفتاء تجديد للميثاق بين الدولة والمجتمع. أما رمزية تاريخ اجراء الاستفتاء، فكان الرد على أي توجه انقلابي أو ثوري، من خلال اجراء الاستفتاء يوم 21 ماي 1980، وهو ما يوافق 20 سنة على اقالة حكومة عبد الله إبراهيم التي ضمت وزيرا للبريد الجنرال محمد المدبوح زعيم محاولة الانقلاب الأولى (10/7/1971). كان الاستفتاء يوم 23 ماي بدل يوم 21 لأن تنظيم الاستفتاءات المغربية يجري يوم الجمعة حتى يطبعها ملمح ديني وحتى تلعب المساجد دورها في تخصيب المشاركة الشعبية وفق القيم التاريخية المختزنة في ذاكرة الفئات الشعبية التي تشكل الرقعة الواسعة من الكتلة الناخبة.

عندما تتحدث الدولة عن “الاستمرارية” لا يكون حديث مجرد إنشاء لغوي.

درس هذه الرمزية الرقمية وضبط التواريخ يعني أسس بناء أي برنامج سياسي معارض جدير بالاحترام. فأي طرف، وهو يمارس مشاركته في الحياة السياسية، تحت سقف كيان سياسي تاريخي حيث تملك الدولة تفاصيل دقيقة لصنع الحدث، بأقدمية أربعة قرون من الخبرة، وحتى يبتعد على الكلام الغوغائي، عليه أن ينظر لنفسه في المرآة. ويقارن بين قدرة الدولة على استقطاب أفضل الأطر في المجتمع، وبينه كمعارض يقول أي كلام ويمارس قواعد العمل الحزبي بلا بنية تحتية قوية ولا أطر يعرفون ما يفعلون.

دون ذلك، هامش الهامش هو المربع المستحق، ولا يعدو الدور في الحياة السياسية أن يكون التأثيث التكميلي لما تريده الدولة من ثرثرة ولعب عيال.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist