الثلاثاء, يناير 7, 2025

حضور النساء في التاريخ و مخاض الحداثة العسير (الجزء الثاني)

ذ. إدريس بنيحيى

قبل الخوض في مواقف وسلوك التهامي الوزاني من مسألة المرأة المغربية أريد أن اقف عند بعض المفاهيم لتوضيحها، وسأتجاوز قضية المرأة الواردة في العنوان أعلاه لأن هذه القضية أصبحت اليوم معروفة لدى المتتبعين ليس فقط باعتبارها قضية اجتماعية لمواطنة مسلمة يعطيها الإسلام حقوقا وواجبات ،عمل المجتمع التقليدي على طمسها كما صاغ ذلك قاسم أمين منذ أكثر من قرن، بل أيضا أصبحت القضية معروفة باعتبارها قضية ذات ابعاد متعددة، اجتماعية وسياسية وثقافية وربما حضارية أيضا، لأنه كما قال عبد الله العروي في إحدى حواراته” أن مشاكل المجتمع تأتي من هنا، أي من المرأة فإما أن تحرر وتحرر نفسها بنفسها وإما أنها تتكبل وتكبل المجتمع بتكبيلها، فتكبيل المرأة حتى وإن رضيت بذلك هو تكبيل للمجتمع. والمفهوم الذي أريد توضيحه هو الفكر السلفي الإصلاحي ، ففي تعريفه لهذا الفكر يقول العروي في كتابة الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية (1830- 1912) أن “السلفية في الجوهر كانت منهجية في خدمة مدارس التفكير، فهي لم تكن تستجيب فحسب لبعض المصالح الفئوية وللمركزية المخزنية، بل كانت أيضا تستجيب لسلطة العلماء و للإصلاحية البورجوازية . ومن ثم كانت السلفية في آن واحد إصلاحا ذو أبعاد أخلاقية واجتماعية ودينية وسياسية.إن حصر السلفية في المضمون الوطني فقط هو اختزال لها في الاستعمال التكتيكي، وبالتالي تجاهلها كقيمة منهجية نهلت منها كل الثقافة الإسلامية المغربية.

…… إن تعليم المرأة إذن ليس مطلبا شخصيا للمرأة بل هو مطلب أساسي لنهضة المجتمع ، وهذا ما جعل التهامي الوزاني يشجع الجمعية الخيرية الإسلامية على استقبال الفتيات المشردات وإعطائهن شيئا من التعليم والصنائع حتى تصبح الواحدة منهن مؤهلة للقيام بنفسها وزوجها وأولادها …. لكن التهامي الوزاني يعترف بقوة تيار المحافظة في المجتمع التطواني بما فيها بعض الفئات المحسوبة على الوطنية، ربما كان هذا هو السبب الذي دفعه إلى تسجيل إحدى بناته واسمها ” فاطمة ليلى” بالمدرسة الأهلية حينما كان مديرا عليها ، مع فصل للذكور بعد أن أعطاها اسما جديدا وهو” توفيق” وألبسها لباس الذكور ، لكن افتضاح أمرها بعد أن ظهرت عليها علامات الأنوثة أمام التلاميذ، قد جعل التهامي الوزاني يعدل عن فكرة استمرار دراستها، نعم ، إذا كان تعليم المرأة أمرا ضروريا بل واجبا لنهضة المجتمع فماذا يلزم تعليم المرأة ؟ من القضايا التي يجب أن تتعلمها المرأة حسب البرنامج الذي وضعه المجلس الأعلى للتعليم سنة 1938 وصدر بجريدة الريف بعنوان ” مدرسة البنات التربية الإسلامية والآداب والقرآن والعقائد والعبادات واللغة العربية نحوا وصرفا وإملاء، كما يجب إعطاء المرأة نظرة عن الأمة العربية والتعرض لشهيرات النساء في الأدب العربي من أجل ترسيخ اعتزازها بالانتماء إلى الأمة العربية. ويلزم أيضا أن تدرس جغرافية المغرب وتاريخه وتشريعاته، مع دراسة الحساب والرياضة ودراسة أشهر النساء في الحضارة الحديثة والقديمة، مع العمل على تدريسها التربية المنزلية من طبخ عربي وإفرنجي وخياطة…. ويستهدف هذا البرنامج تكوين “البنت المغربية المسلمة العربية المثقفة ثقافة إسلامية عربية مغربية التي تستطيع أن تدير شؤون منزلها كما تديره المرأة المتعلمة في الأمم المتمدنة، … وتستطيع أن تربي أبناءها تربية صحية راقية، والتي ستكون مفخرة للمرأة المغربية ومدرسة معلمة للطفلة المغربية في الجيل الحاضر.

ومع ذلك فإنه يجب في نظر التهامي الوزاني التحلي بالحذر أثناء تعليم الفتاة وذلك بإعطائها التعليم النافع. فقد اعتبر أن تعليم البنت المغربية لا يجب أن يقودها إلى التخلص من عادات و تقاليد مجتمعها أسوة بالفتاة الأوروبية . من هنا كان من الضروري الجمع في تعليمها بين التعليم والتهذيب الأخلاقي والنفساني ، كما يجب أن تختار لها الكتب وبحذر، لأنه ليست كل الكتب نافعة.
والواقع أن الدعوة إلى تعليم الفتاة المغربية لم تجد سوى صدى محدودا في المجتمع التطواني أثناء الحماية الإسبانية بسبب تفشي تيار المحافظة في هذا المجتمع من جهة وضعف اهتمام النخبة الحضرية بهذا الجانب من جهة أخرى ، وهذا ما جعل عدد النساء المتعلمات قليلا جدا، فالعناصر الأولى التي التحقت بالمدارس الحرة مثل المدرسة الأهلية كانت كلها من الذكور بل إن البعثات الطلابية التي ذهبت للدراسة في الشرق أو مدريد كانت خالية من الفتيات . لقد كانت الدكتورة أمينة اللوه هي المرأة الوحيدة حسب علمي، التي استطاعت استكمال دراستها بإسبانيا. وعلى الرغم من المجهود المتواضع الذي بذلته النخبة الحضرية لتعليم المرأة، فقد سمح ذلك بتوغل الأفكار الوطنية في صفوف النساء داخل البيوت، ذلك ما يستشف من إحدى مقالات التهامي الوزاني بجريدة الريف المذكورة سابقا حيث كتب تحت عنوان ” الوطنية داخل الحريم ” قائلا ” أمامنا اليوم الفكرة الوطنية فقد جاهر بها الشباب الأعزب لأول مرة بعيدا عن المرأة …وظلت الفكرة محجبة عن ربات البيوت… فلما أعلنت الأمة حزنها ووضعت لجنتها التنفيذية – يقصد اللجنة التنفيذية لحزب الإصلاح الوطني طقوسها وشعارها وألبست فتيانها …تحركت المرأة وأخذت تقلد الرجل في عمله ثم اتسعت دائرة العمل فأصبحن وطنيات يرددن كلمات الزعامة والحرية والنهضة والعلم والاستقلال والحق والعدل.. وهذه الظاهرة الجديدة التي قلبت عقلية المرأة المغربية رأسا على عقب يجب أن تستفيد منها الأمة الاستفادة اللازمة في تربية الأولاد التربية الصحيحة وفي حضهن على الاقتصاد في اللباس وإرشادهن إلى الحقوق التي أوجبتها لهم وعليهم الشريعة الإسلامية.
رغم التفاؤل الذي يبديه التهامي الوزاني فيما كتبه أعلاه في شأن اختراق المرأة للعمل الوطني ، فإن الواقع المغرق في محافظته حيث” البيت هو مكان المرأة” كما جاء في إحدى المقالات الصادرة بجريدة الريف( عدد536 ليوم 19يونيو1947)، قد دفعت التهامي الوزاني ليكتب في نفس العدد مقالا بعنوان” اتركوا للمرأة حريتها أن تسير في طريقها حيث يعتبر أننا في حاجة ماسة إلى ” ما يحسن أخلاق الناس ويجعل الشباب ينصرفون عن تفاهة أحاديثهم وضيق تفكيرهم حول المرأة كأنما خلقوا لشيء واحد هو بهيميتهم …فالحياة الحاضرة لا يمكن أن تسير كما كانت بالأمس. فبالأمس كان نطاق العمل منحصرا فيما يكفي لتناول اللقمة وستر المرأة ، فكان مجهود رجل يكفي لسد حاجته وحاجة المرأة التي في كفالته. أما الحياة الجديدة فإنها حياة معقدة …” تحتاج هذه الحياة م دون شك إلى الرجل باعتباره مخلوقا قويا لكن هذا الأخير يحتاج بدوره حسب التهامي الوزاني إلى مساعد للاعتداد بشخصيته …” فليفتح الباب للمرأة – يقول الوزاني- وأهم أمر في المسألة هو أن تشعر المرأة باحترام الرجل لها كما يحترم الرجل أخاه الرجل. اما مادام ينظر إليها كأنها خلقت لتكون متاعه فإنها لا يمكن أن تجد القوة النفسية الكاملة لتعمل معه جنبا إلى جنب.إن بؤس أوضاع المرأة تزداد استفحالا إذا علمنا موقف العلماء وقراءتهم الجامدة للشرع الإسلامي وهو الأمر الذي أثار حيرة التهامي الوزاني حينما لاحظ الفرق بين الإسلام كدين للسعادة في الدنيا والآخرة وبين ما يكتبه العلماء الذين لم يتركوا شيئا من مظاهر نبوغ الأمم إلا وحرموها ، فقد كتبوا” بحرمة الموسيقى، وقالوا بحرمة النظر إلى المرأة ولو بعين الاعتبار …وحرموا النحت وصنعة التماثيل وحرموا حتى التصوير الزيتي والفوتوغراف، وحرموا كل شيء يمت إلى الفن والعمارة والحضارة بسبب وحتى السينما حرموها فضلا عن التمثيل والمراقص، وما تظهر فيه عظمة الفن ونبوغ الأمم، وحللوا شيئا واحدا وهو الاستكثار من المناكح، فقد فتحوا الباب على مصراعيه وتفاضوا عن التحوطات التي وضعتها شريعة الإسلام في تعدد الزوجات ولم يبالوا بأن ينكحوا الإماء المسلمات ابناء المسلمين الأحرار … ولم يقصروا في هذه الناحية ولكنهم شددوا فيما يربي الأخلاق والعاطفة والذوق.

و إذا كان صحيحا أن تيار المحافظة كان ما يزال قويا ، وان المجتمع المغربي كان وما يزال يشكو من تأخر تاريخي عميق ، فإن هناك تحولات عميقة بدأت تدب في هذا المجتمع مع بداية الخمسينات من القرن العشرين ، ومن بينها التحولات التي مست عقلية المرأة بفعل التعليم ، على الرغم من محدوديته بالنسبة لها، فقد كتب التهامي الوزاني بمجلة” الأنيس ” سنة1950 تحت عنوان المرأة في ميدان الحياة العامة” أن ” انتشار العلم قد دفع المرأة إلى أن تتبوأ مكانتها الحقيقية التي انتزعها منها الرجل وكأنها تريد أن تقول: إن النساء شقائق الرجال في الأحكام فعلى المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم، و الرجل يتمتع بحقه من الحرية الاجتماعية المصونة بالتشريعات والقوانين وله حسناته وسيئاته وللمرأة أيضا حسناتها وسيأتها … فمنذ خلق الكون والصالحون موجودون إلى جنب
“الصالحات والطالحات ، وسائر هذه القيود لم تفد شيئا، بل حرمت المجتمع من مجهود نصف الأمة، لذلك فإن للمرأة كامل الحق في أن تطالب بالسفور و بمشاهدة الروايات السينمائية لتطل على دنيا الناس… وتعلم أن العالم لا ينحصر في جدران البيت…” وفي رده على منتقديه على ما يبدو الذين اتهموه بالخروج عن الشرع باصطحابه لزوجته إلى السينما يقول التهامي الوزاني: ” لو كنا نعلم أن وقوفنا في وجهها – يقصد المرأة المغربية بصيغة الجمع كان يتركها راضية لفعلنا، لكننا إذا حرمناها لما . هي مشتاقة إليه، ولا ضرر كثير فيه ، فإنها ستستاء واستياؤها يقلب علينا حياتنا رأسا على عقب..
والواقع أنه في غياب تصور واضح لمسألة التحديث الاجتماعي وفي قلبه قضية المرأة والتي لم تكن ضمن أولويات النخبة الحضرية بتطوان والمغرب عموما بسبب الانغماس شبه الكلي لرموزها في العمل السياسي، فإن دعواتها لتعليم المرأة المغربية ظلت حبيسة الجرائد، وهذا ما يفسر كون عدد النساء المغربيات المتعلمات إلى غاية الاستقلال ظل محدودا . وربما كان هذا الإحساس بالعجز هو الذي دفع جريدة “الريف” إلى وضع أحد عناصر البرنامج الاستعجالي لما بعد الاستقلال حيث اعتبرت في مقال بعنوان” المرأة والأمة ” سنة1955 أن ” انحطاط مرتبة المرأة هو أهم مانع يقف في سبيل تقدمها، فتربية الفتاة . هي من الحاجيات الضرورية التي يجب البدء بها ، ولعل الإسلام جاء بما لم تأت به سائر الشرائع والقوانين من تكريم للمرأة ومنحها المكانة اللائقة بها.

في نهاية عرضنا لمواقف واحد من أبرز رموز النخبة المثقفة بتطوان أثناء الحماية الإسبانية بشمال المغرب، نود أن ندلي بملاحظتين اثنتين :
–  رغم اختراق فكرة الوطنية لجدار الحريم، وتأسيس حزب الإصلاح الوطني” لقطاع نسائي” تابع له فإن الفضاء الذي دافعت النخبة الحضرية بتطوان عن حق المرأة المغربية في ولوجه ظل – فيما أعتقد – منحصرا فيما يمكن تسميته بفضاء الحقوق المدنية للمرأة وخاصة حقها في التعلم والسفور.. انطلاقا مما ,تنص عليه الشريعة الإسلامية، وليس في ما كتبه التهامي الوزاني أثناء الحماية الإسبانية

حول هذا الموضوع ، ما يبين بوضوح أن أية محاولة نظرية للانفتاح أو للإحالة فيمسألة المرأة المغربية على أية مرجعية ثقافية وضعية مرتبطة بالفكر الديموقراطي الغربي عموما، بل اقتصر الأمر على قراءة جديدة للشرع الإسلامي في إطار الفكر السلفي الإصلاحي كموجه للحركة الوطنية المغربية .
– رغم نزوعها الليبرالي ، لم تستطع النخبة الحضرية بتطوان والمغرب عموما أن تعمل على التأصيل الثقافي لما يمكن تسميته بالتحديث الاجتماعي كالتأسيس النظري للفرد ككيان مستقل سواء تعلق الأمر بالرجل أو المرأة على السواء، إن غياب هذا التأصيل هو الذي يفسر أن تصور هذه النخبة للرجل والمرأة لا ينبع من كونهما يستمدان كيانيهما من كونهما أفرادا مستقلين أي مواطنين، لهما حقوق سياسية ومدنية واضحة بل ينتميان فقط إلى الجماعة / الأمة وهي في هذه الحالة الأمة المغربية التي تسعى إلى تأكيد هويتها العربية الإسلامية أمام الآخر الأوربي/ المستعمر ، لا باعتبارها فقط تجسيدا لعظمة الماضي ، بل أيضا استعادة له في المستقبل .

ذ ادريس بنيحيى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist