الأربعاء, يناير 8, 2025

المساواة بين النساء والرجال في قانون الأسرة مسألة حقوق وتنمية

ذ. حكيمة ناجي
  1. فتح يوم 26 شتنبر 2023 ورش الاشتغال على مدونة الأسرة للمرة الثالثة في تاريخ بلادنا، بالرسالة الملكية الموجهة لرئيس الحكومة. من 1957، تاريخ أول مدونة أطلقها المرحوم محمد الخامس وكل ما أثارته آنذاك من نقاشات حول حقوق النساء، ظل الملف مغلقا لما يقارب أربعة عقود مما أضفى على المدونة طابعا قدسيا، إذا مسسته فكأنما مسست أركان عرش الكون. فجاءت حملة المليون توقيع التي أطلقها اتحاد العمل النسائي سنة 1991 توجت بأول تحكيم ملكي للراحل الحسن الثاني بفتح ملف التعديل الأول سنة والحقيقة أن هذا الورش الأول، وإن لم تكن التعديلات التي أفرزتها اللجنة الملكية المكلفة بمراجعة المدونة والتي ترأسها عبد الهادي بوطالب آنذاك في مستوى التحولات الاجتماعية وحاجيات النساء، فإنه قام بشيء لم يكن في الحسبان، ألا وهو رفع القداسة على العلاقة بالمرأة لتصبح شأنا عاما سياسيا لما قامت به الحركة النسائية من عمل تَفْكيكي للخطاب الأبوي السائد على المستوى المؤسسي والثقافي. وكان الورش الثاني لإصلاحها في 2003 والذي أطلقه الملك محمد السادس في أبريل 2001، في ظل أجواء جديدة تميزت بنفحات ديمقراطية مع حكومة التناوب وتجديد العرش تعِد بآفاق مهمة نحو الديمقراطية وتحديث المجتمع. لكن النخبة الحزبية وبالخصوص اليسارية منها التي وصلت الحكم رغم ما أعلنته من قابلية لإصلاح أوضاع النساء قد أخلفت الموعد. ومع ذلك تحققت إصلاحات مهمة اعتبرها البعض ثورة هادئة والبعض الآخر اعتبرها لا متناسبة مع ما تزخر به المرحلة من إمكانيات التغيير. وفي مطلق الأحوال، فإن هذه المحطة شكلت مبتدأً للتعاطي السياسي المدني مع النساء عندما قدِّم مشروع إصلاح المدونة لنظر البرلمان بغرفتيه. وإن كانت هذه العملية شكلية في جوهرها، فإن لها من الدلالات السياسية القوية، القبول بازدواجية التعاطي مع حقوق النساء على قاعدة الديني/المدني. لكن هذا التعاطي المزدوج إن لم يكن له من أفق نحو الانتقال إلى التعاطي السياسي المدني المحض، فسوف يبقى موضوع حقوق النساء خارجا عن الزمن السياسي.
  2. في 2015 فتح ملف الإيقاف الإرادي الآمن لحمل غير مرقوب فيه، وكلفت مؤسسات بإعداد تقارير في الموضوع، وانخرطت الحركة النسائية وجمعيات المجتمع المدني المهتمة. وطوي الموضوع بعد ذلك.  وفي 2018 دعا الملك إلى مراجعة مدونة الأسرة في الرسالة التي وجهها إلى المشاركين في أشغال الدورة الخامسة للمؤتمر الإسلامي للوزراء المكلفين بالطفولة، الذي نظمته المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة بالرباط يومي 20 و21 فبراير. وفي خطاب العرش 2022، دعا الملك لتفعيل المؤسسات الدستورية المعنية بحقوق النساء والمساواة، ولا تزال الحكومة غير عابئة بتنزيل هيئة المناصفة ومناهضة جميع أشكال التمييز. إن التداول العمومي في في كل هذه المسائل مهم جدا لما يحبل به من إمكانات بيداغوجية في الحوار بين مكونات المجتمع، لكننا أحيانا نحس باستنزاف للطاقة والجهد والتعبئة عندما لا يكون هناك تفاعل من لدن السلطات المعنية، وهو ما يؤثر سلبا على دينامية القوى الحية للمجتمع وعلى الثقة في المؤسسات.
  3. وها هو الشوط الثالث يأتي بعد عقدين تقريبا من الزمن بمنهجية أكثر تقدما من سابقتها. فبعدما تم اتخاذ القرار بصدده في خطاب العرش 2022، وجهت رسالة ملكية إلى الوزير الأول حددت الأطراف المعنية بهذا الإصلاح، من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، مع الدعوة إلى إشراك هيئات أخرى معنية بهذا الموضوع بصفة مباشرة، وفي مقدمتها كما اعتبرها البلاغ، “المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، مع الانفتاح أيضا على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين.” وقد حددت مدة إعداد مقترحات التعديلات في ستة أشهر. ويمكن القول إنها منهجية سياسية فيها نوع من التوازن بين سلطة الملك والسلط الأخرى، بحضور إمارة المؤمنين في أهم محطاتها التوجيهية والرقابية، وحضور لكل من السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية في الإعداد والمصادقة.
  4. وإذا كانت الدولة اليوم قد أصبحت تعترف بالطابع الحقوقي لقانون الأسرة مع كل التحفظات التي تضعها أمام بعض الحقوق، فهل تعي حقا طابعها التنموي السياسي؟ وهل نعرف حقا تبعات التمييز لفائدة الرجال ضدا على النساء في هذه المدونة على المشروع التنموي الذي نطمح له؟ هذا ما سأحاول الجواب عنه فيما سيتبع من فقرات في هذه المقالة.  سوف نأخذ مقترح النموذج التنموي الذي قدمته اللجنة التي ترأسها السيد شكيب بنموسى والذي تستلهم الحكومة منه برنامجها حسب منطوقها، كنموذج صارخ بأن لا وجود لوعي العلاقة بين التنمية والمساواة بين الجنسين في المدونة، وحتى وإن وجد الوعي بها عند البعض، فهي ليست أولوية ويمكن التضحية بها درءا لبلاء الإرهاب الفكري. لكن قبل ذلك دعنا نوضح هذه العلاقة أولا.
  5. سوف نعتمد في البداية تقرير منظمة التعاون من أجل التنمية الاقتصادية حول ما يشكله التمييز في المؤسسات الاجتماعية، والأسرة على رأسها من آثار وخيمة على التنمية وما تخسره الأمم من موارد في ناتجها الداخلي الخام. يقول التقرير إن ” عدم تحقيق التقدم الكافي في مجال إدماج المرأة يشكل عائقا رئيسيا لتسريع وتيرة التطور الاقتصادي والاجتماعي”، وأن اللامساواة في المؤسسات الاجتماعية، كما حددتها تقاريره منذ التقرير الأول لمؤشر المؤسسات الاجتماعية والنوع، تشكل العائق الرئيسي لاندماجهن. إن هذه المؤسسات الاجتماعية تتمثل في القوانين والمعايير والممارسات التمييزية التي تؤثث للتميز، داخل الأسرة إذ لا تزال حصة النساء في هذا الصنف من العمل غير المؤدى عنه كبيرة جدا مقارنة بالرجال، والحد من ولوجهن للموارد المنتجة والمالية، والحد من حرياتهن المدنية والعنف الممارس عليهن. إن كل هذه المؤسسات الاجتماعية التمييزية تعوق وبشكل كبير كل المجهودات التي يمكن القيام بها لتمكينهن اقتصاديا أو سياسيا أو اجتماعيا. ويؤكد تقرير 2019 أن هذه المؤسسات تشكل معيقات لتحقيق الهدف الخامس لأجندة 2030، بل تعيق الأجندة برمتها. ولقد تربع بلدنا من حيث مؤشر SIGI ( Social Institutions and Gender Index) المؤسسات الاجتماعية والنوع ضمن مجموعة الدول حيث التمييز عال أو عالي جدا في هذه المؤسسات من زاوية النوع. فقد بلغ التمييز داخل الأسرة 73% وهي نسبة مرتفعة، و59% في باب الحريات المدنية للنساء، وقد صنفت أيضا مرتفعة، وفي الولوج للموارد الإنتاجية والمالية، 38% (متوسطة)، وبالنسبة للسلامة الجسدية 26% (متوسطة). وقد قدر التقرير الذي خصصته منظمة التعاون لأفريقيا هذه السنة 2021، ثمن التمييز في المؤسسات الاجتماعية ما يعادل 7،5% من الناتج الداخلي الخام لسنة مؤكدا على استمرار سيادة الأدوار التقليدية داخل البيوت مما ينتج توزيعا غير عادل للأعمال المنزلية غير المؤدى عنها والتي بدورها تساهم بشكل سلبي في مشاركة النساء في سوق العمل. وعلاقة بالتمكين الاقتصادي، فإن التقاليد والعادات التي تعتبر الرجال وحدهم يملكون الحق في ملكية الأراضي تحرم النساء من المصادر العقارية التي تشكل مكونا أساسيا في التمكين الاقتصادي. إن النساء بأفريقيا لا يملكن إلا 12% من الأراضي الفلاحية في حين يشكلن ما يقارب النصف من اليد العاملة الفلاحية.  إن القوانين والمعايير الاجتماعية والممارسات التمييزية تنتج فوارق بين النساء والرجال في الحقوق والفرص. وهو ما يستوجب تدخل الحكومات لرفع هذه الكوابح الحقيقة للمساواة بين النساء والرجال.
  6. إن هذه المعيقات لاندماج النساء ومشاركتهن في التنمية تشل كل البرامج والسياسات العمومية، مما يضيع على النساء وعلى المجتمع فرص التنمية الحقيقية ويجعل من تحقيق أهداف التنمية المستدامة حلما جميلا لا نبلغه أبدا. وهو ما عمل النموذج التنموي على تأجيل الحسم فيه، من تمييز في الوسطين الخاص والعام، حتى يحدث بصدده ” نقاش اجتماعي ديني”،هو بالضبط ما سوف يعيق ما اقترحته لتمكين النساء. إن النموذج التنموي كان محتشما فيما اقترحه وقد سلك طرقا ملتوية وحاول قدر الإمكان الالتفاف عن قضايا مطروحة منذ ما يقارب عقدا من الزمن على الأجندة الرسمية والساحة العمومية، كالإرث والمساواة الأسرية والإيقاف الإرادي لحمل غير مرغوب… كما لو كنا لا نزال في تسعينيات القرن الماضي. ويتبين بالوضوح أن المساواة بين الجنسين لا تخص التقليداويين فحسب بل وأيضا “الليبراليين” المحافظين. وقد تجلى ذلك بوضوح عندما اعلنت بصريح العبارة تمسكها بدور النساء في الاسرة وفق توزيع تقليدي محافظ للأدوار، مقترحة ” خلق شروط مواتية للمشاركة القوية للنساء مع الحفاظ على الدور الذي يقمن به في الاسرة.”   وأسوق مثالا آخرا يؤكد التوجه هذا الليبرالي المحافظ، عندما يقترح كتوجهات استراتيجية ” تشجيع الحلول المتعلقة بالمرونة في العمل في الوسط المهني بالنسبة للنساء والتي من شأنها أن تساعدهن في التوفيق بشكل أفضل بين الالتزامات العائلية. فعلاوة على أن هذه المقترحات سوف تخلق، في ظل تفشي التمييز، شروطا إضافية ملائمة لتكريس التوزيع التقليدي للوظائف بين النساء والرجال، فإنها تقتل كل إمكانية للتفتق المهني والعلمي والذاتي للنساء ولاندماجهن في سيرورة التقدم. إن اقتراح ” المرونة في العمل” بالنسبة للنساء يشكل خطرا أكثر منه فرصة، ولعل هاجسه الأسرة أولا وليس المرأة أولا كفرد وكفاعل تنموي له من الحقوق والطموح كما للرجال.
  7. وإذا كان الدستور قد شكل نقلة نوعية بالنسبة لحقوق النساء والمساواة بين الجنسين، عندما خصها ب 18 فصلا من أحكامه للمساواة واعتبر الاتفاقيات الدولية المصادق عليها ذات أولوية على القوانين الوطنية، ونصت المادة 71 منه بصريح العبارة أن الحقوق والحريات الأساسية المنصوص عليها في التصدير، وفي فصول أخرى من هذا الدستور ونظام الأسرة والحالة المدنية من اختصاص القانون، فإنه يبقى من حقنا أمام كل هذه التعثرات التي تعرفها حقوق النساء و المساواة بين الجنسين، القول إن الدولة المغربية توجد في حالة تناف مع الوثيقة الدستورية.

         حكيمة ناجي

تطوان 3 أكتوبر 2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist