نافذة سياسية : الشعبوية اليسارية في القرن الواحد والعشرون
مقدمة:
ونحن بصدد قراءة متأنية لأرضية الاشتراكي الموحد والمعنونة ب”أرضية السيادة الشعبية” وهي أرضية للنضال اليساري من اجل الديمقراطية والحفاظ على السيادة الوطنية… ان الكلمات /المفاتيح : السيادة الشعبية، الديمقراطية ، السيادة الوطنية لها دلالاتها السياسية في اطار الصياغة العامة للارضية وخطها السياسي الذي يتبنى “النضال الديمقراطي في افق اشتراكي” و العمل على تحويل “الارادة الشعبية” الى “سيادة شعبية” و كخط سياسي منخرط في النضال العالمي من اجل عولمة بديلة ومنخرط في الحراكات الشعبية لتحويل المطالب الشعبية الى مكتسبات سياسية ….ان هذا الخطاب السياسي الذي يجعل”الشعب” في قلب الصراع ضد الطغمة الحاكمة لترسيخ الديمقراطية لحقة حتى تتحقق السيادة الشعبية هو خطاب تتميز به كل الاحزاب والحركات السياسية اليسارية الشعبوية “كبوديموس” “سيريزا” و”حزب العمالي لكوربين” و”فرنسا الأبية” بزعامة ميلونشون وتتقاطع نسبيا مع اليسار الشعبوي بامريكا اللاتينية مع فوارق طبعا…، ومن هذا المنطلق سنحاول فتح هذه النافذة السياسية لتعرف معا على رؤوس أقلام هذه الظاهرة الإيديولوجية الكونية خلال القرن الواحد والعشرون لسبر اغوارها وتمفصلاتها مقارنة مع ما يمور في ساحتنا السياسية من تقلبات يحكمها جزر سياسي شامل، ونكوص ديمقراطي، وفساد النخب، مع اندلاع بين الفينة والأخرى لحراكات شعبية في كل بقاع الوطن…
**********
إن مفهوم “السيادة” يسبق تفسيرنا الحالي الذي يتمحور حول الدولة. واساسا يُربَط معنى سيادة السلطة العليا بالقانون الترابي [1-2]. بعد الاستكشاف المبكر للفكرة في العصور الكلاسيكية (أرسطو، القانون الروماني، وما إلى ذلك) انطلق النقاش حولها في منتصف القرن السابع عشر تقريبًا. وقد اندلعت انذاك حربان أوروبيتان طويلتان بين إمبراطوريات العصور الوسطى – استمرت احداهما 80 سنة، والتالية ، التي كانت دموية للغاية لما ينيف عن 30 سنة – (الإمبراطورية الإسبانية و”الإمبراطورية الرومانية “)، اضافة الى العديد من الكيانات السياسية الصغرى والتي كانت تسعى الى إنشاء دولة، أدت إلى الاقتناع المتزايد لدى القادة السياسيين والباحثين بأن أوروبا بحاجة إلى طريقة أفضل لتنظيم السلطة السياسية – سواء داخل الكيانات السياسية أو فيما بينها [3] . وعلى سبيل المثال، جادل جان بودان (Jean Bodin)، الذي يعتبره الكثيرون الأب الأيديولوجي لمفهوم “السيادة”، إذ تناول هذه المسألة في كتاباته في القرن السادس عشر وخصوصا كتاب ” الجمهورية” إذ ربط بين فكرة السيادة وعدم خضوعها الى منازعة من قبل الغير، و بأن متاهة النظام الإقطاعي ، مع عدد لا يحصى من بلدياته و نقاباته وحواضره واتحاداته التجارية، رسميًا تحت سلطة الكنيسة والإمبراطور، ولكن دون استطاعة أي منهما القدرة على إخضاع الآخرين في وقت الأزمات، مما كان أحد الدوافع الرئيسية للفوضى والحرب في أوروبا. وحسب بودان فان الحكومة قوية، يجب ان تُعتَبر شرعية، ولكي تكون شرعية، عليها أن تتبع قواعد معينة من “العدالة والعقل” [4]
وقبل الحديث عن السيادة الشعبية التي سنناقشها في هذه الحلقة والتي أساسا يتم نقاشها من داخل الدولة ، سنعرج على نبذة تاريخية لنشوء الدولة والتي لن نفصل فيها لان الموضوع لسنا بصدد نقاشه وسنتطرق إليه لاحقا في حلقة مفرزة.
تاريخيا يمكن اعتبار “الدولة” مفارقة تاريخية في القرن السابع عشر، والذي عرف حدثا سياسيا ها تجسد في معاهدة وستفاليا والتي تمّ توقيعها في 24 أكتوبر 1648 في مونستر ووستفاليا ( ألمانيا) ، والتي أنهت حرب الثلاثين عاما (1618-1648)، وانتهت المعاهدة بتوقيع اتفاقيتين: الأولى وُقّعت بين الإمبراطور الروماني وملك فرنسا، والثانية بين الامبراطور وملك السويد. وقد شارك في معاهدة وستفاليا الإمبراطورية الرومانية المقدّسة ، مملكة إسبانيا، فرنسا، الإمبراطورية السويدية، وملوك الإمبراطورية الحرّة. ويمكن اعتبار أن معاهدة وستفاليا قد أسست للمفهوم الحديث لسيادة “الدولة-الأمة” (nation-state) [5] . والذي بمقتضاه تتمتع كل دولة بالسيطرة الحصرية على أراضيها وشؤونها الداخلية، مع استبعاد التأثير الخارجي، وغالبًا ما يستخدم مصطلح “السيادة الويستفالية” للإشارة إلى الفكرة الأساسية/المفهوم. وبقدر ما تُعتَبر الرقابة الداخلية واستبعاد القوى الخارجية من المكونات الأساسية لسيادة الدولة أو ما يسمى بالسيادة “الداخلية” أو عموما بالسيادة الوطنية [6] بما يعني أن الدولة تبسط سيادتها على الأراضي التابعة لها، وتسن قوانينها وتنفذها في ذلك المجال الجغرافي [7] . وعلى المستوى الخارجي، تتطلب السيادة “الاعتراف المتبادل” بين الدول وتمثل كيانا محددًا ضمن نطاق اختصاصه القضائي الحصري.[8] وهذا ما يسمى بالسيادة القانونية، أو السيادة القانونية الدولية. [9] ومن الناحية العملية، تعني السيادة أن الدول جهات فاعلة مستقلة، يمكنها السيطرة على أراضيها، ويمكنها اختيار شكل الحكم الخاص بها، والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض. وعلاوة على ذلك، تتمتع الدول ذات السيادة بسلطة الدخول في اتفاقيات دولية مع بعضها البعض. وفي سياق التدفقات المتزايدة عبر-وطنية والناجمة عن العولمة، أصبحت سيادة الدولة تشير أيضًا إلى القدرة على التحكم في “التحركات العابرة للحدود”، في ما يتعلق بالبضائع والأشخاص. [10]
إن الحديث عن سيادة شعبية مع ما تحمله هذه الفكرة من أسس وأهداف لا تستقيم في الواقع إن لم تتوفر لها وسائل حقيقية تمكن أفراد الشعب فعلا من الشعور بأن لهم السيادة الحقيقية في ممارسة الشأن العام، على اعتبار أن السيادة الشعبية هي المبدأ المؤسس لبناء الديمقراطية الحديثة. وتتلخص فكرتها المركزية في أن النظام السياسي الديمقراطي هو النظام الذي تؤول فيه السلطة في نهاية المطاف إلى “الشعب”. إن المطالبة بالسيادة الشعبية هي إحدى السمات الرئيسية للشعبوية اليسارية حاليا حول العالم (اوروبا، افريقيا وامريكا اللاتينية). كما أن التركيز الواضح على السيادة الشعبية له سببان: التفكير العام في الديمقراطية والحاجة إلى طرح بديل ديمقراطي لنظام الحكم (على المستوى الاقتصادي والسياسي والمؤسساتي). ولقد طرحت الباحثة موف [11] تمييزًا مشابهًا عندما ادعت وجوب التمييز بين مستويين: النظام، والمؤسسات الديمقراطية الليبرالية، التي تتمفصل ما بين الليبرالية السياسية والقيم الديمقراطية للمساواة والسيادة الشعبية والهيمنة.
ونلاحظ حاليا أن مفهوم الديمقراطية السائد يُغَيِّبُ المكون الشعبي. ويشير بيتر ماير[12] إلى التمييز بين “الديمقراطية الدستورية” و”الديمقراطية الشعبية”. يسلط المفهوم الأول الضوء على “الحاجة إلى الضوابط والتوازنات عبر المؤسسات ويستلزم الحكم من أجلِ الشعب”، بينما يؤكد الأخير ” على دور المواطن العادي والمشاركة الجماهيرية، ويستلزم الحكم من قِبَل الشعب”.
إن استعادة السيادة الشعبية يعيد الربط بين الديمقراطية الدستورية والشعبية، ويضع السيادة الشعبية كمكون أساسي للديمقراطية وليس كمكون هامشي أو كمهدد للديمقراطية. إن استعادة السيادة الشعبية، كما صاغتها الشعبوية اليسارية، لا تهدف إلى استبدال السلطة الدستورية بالسلطة الشعبية، بل تهدف بدلاً من ذلك إلى تعريف أوسع للديمقراطية يشمل الديمقراطية الدستورية والشعبية. وبهذا المعنى، فإن القيمة الأساسية للسيادة الشعبية هي أنها تُمَكِّنُ من مساءلة النظام القائم وتفتح إمكانية إرساء مُقوِّمات مُؤَسِّسَة [13] .و من المهم عدم اعتبار السيادة الشعبية قوة قسرية، بل قوة تأسيسية قادرة على خلق الفارق والارتباط بمشروع تقدمي وتحرري [14] .
إلا ان السؤال المطروح هو كيف يمكن للناس أن يمارسوا فاعليتهم السياسية على أساس منتظم؟ وحسب الدراسات المتعلقة بالموضوع ، فهناك من يعتبر أن السيادة الشعبية لا يمكن ممارستها إلا بشكل مباشر من قبل الشعب ككل عبر الاستفتاء [15] و يمكن نعت هذه المقاربة بالنهج الراديكالي للسيادة الشعبية. فيما يعتبر المنظور الثاني كنهج غير مباشر لممارسة السيادة الشعبية عبر تمثيلية برلمانية [16].
لقد طور هانز كيلسن نظرية مميزة “للسيادة الشعبية” تتمحور حول الأحزاب السياسية الدامجة (inclusive) والتشاركية [17] . ولقد أكد كيلسن أن الأحزاب التي تسمح للمواطنين بتوجيه مصالحهم وقيمهم إلى أجندات سياسية معقولة وتعمل على صياغة قرارات جماعية وفقًا لذلك، توفر ممثلا قادرًا على ربط “الشعب الحقيقي” real people الذي يمكن أن نتوقع العثور عليه في الديمقراطيات القائمة كشعب ذو سيادة بالمفهوم المثالي والذي عمليا يحكم نفسه بنفسه [18] .
ويرى جيانباولو بايوتشي [19] أن خطر السيادة يتمثل في “الإرادة العامة” التي تنسب الى جزء بدلاً من “إرادة الجميع”. و يقترح أن السيادة يجب أن تكون سيرورة، أكثر من كونها حالة نهائية. إن فكرة السيادة الشعبية كسيروة مع الاعتراف التوترات القائمة بين “الشعب” والسيادة الشعبية والمؤسسات، مفيدة لتسييس القضايا التي تتجاهلها الديمقراطية الليبرالية لأنها تعطي معنى راديكاليا للديمقراطية، وتصر على فكرة حكم الشعب كتفويض واسع لإحداث التغيير الاجتماعي. ويشير بايوتشي بشكل أساسي إلى “الكتلة التاريخية” كمقابل لما يمكن اعتباره “جبهة واسعة للنضال الديمقراطي”، باعتبار أن الحراكات الاجتماعية قوة رائدة، إذ لا ترتبط جميع الأحزاب اليسارية بالتعبئة الجماهيرية أو تنبع من الحراكات الاجتماعية، لكن جميعها تُطَوِّرُ خطاباسياسيا وآلية للمشاركة السياسية لدعم التماهي بين “الشعب” والحزب. وسيكون من الصعب جدًا تصور السيادة الشعبية كسيرورة إذا تم فصل الأحزاب السياسية عن الحراكات الشعبية والتعبئة الاجتماعية، اذ يظهر الواقع أن هذا الارتباط معقد ويضيف مستويات مختلفة من التوتر بين الحراكات والأحزاب.
ولكي يستتب مفهوم السيادة الشعبية )نظرياً وعملياً( يجب تحديد معيار محدد لتنظيم وتحديد الوسيلة الخاصة بالتعبير عن السيادة الشعبية، وفعلا لقد وجد المجتمع البشري ضالته في فكرة الديمقراطية .وانطلاقاً من التعريف الذي يرى أن الشعب يحكم نفسه بنفسه اختلفت المجتمعات البشرية في تحديد الطرق أو الوسائل التي يتبعها الشعب في حكمه لنفسه و التي سنحاول حصرها فثلاثة مقاربات ذات منظور مختلف لمفهوم السيادة الشعبية وللوسيلة التي يمكن ان تؤدي اليها وهي كالآتي:
السيادة الشعبية المباشرة
وهي مقاربة راديكالية لمفهوم السيادة الشعبية و التي تتحقق عبر الاستفتاء الشعبي. وفي ظل الظروف السياسية المعاصرة، ليست وسيلة مناسبة كما ان هذه الالية لا تساعد على تمكين المواطنين من “الاشتغال من داخل مؤسسات الدولة”. وعلى الرغم من أن هذه الالية تبدو تمكينيًة للوهلة الأولى، إلا أنها قد تستبعد الناس من اتخاذ القرار السياسي بشأن تمكينهم.
السيادة الشعبية الغير مباشرة
وتعتبرالمقاربة الثانية للسيادة الشعبية والاكثر شيوعا، وتدعو إلى التقسيم الضروري للعمل بين الشعب وممثليه السياسيين. ومن روادها تاريخيا رجل الدين والكاتب المناهض لليعقوبيين إيمانويل جوزيف سييس، الذي انفصل بشكل حاسم عن فكرة روسو والتي مفادها أن الديمقراطية لا يمكن أن تكون تمثيلية [16]. ولقد اعتبر سييس ” ان التمثيلية حقيقة أساسية في المجتمع الحديث، و أن التمثيل السياسي ضرورة دائمة في أي بلد كبير ذو كثافة سكانية وحيث يستحيل فعليا توحيد “صوت الشعب” بشكل مباشر [20]. ومن هذا المنظور، فإن الانتخابات هي في الأساس وسيلة لخلق “مجموعتين”: مجموعة من المواطنين الذين يضعون القوانين للجميع، والمجموعة الثانية التي تنضبط لتلك القوانين ــ ولكن إعادة توزيع هذه السلطة لا تقوض السيادة الشعبية كضرورة دائمة حيث يكون من المستحيل عمليًا توحيد “صوت الشعب” بشكل مباشر. [20]
ولقد أبان النموذج الغير مباشر للسيادة الشعبية عن قصوره ايضا وأدى الى تقلص مجال المشاركة السياسية الفعالة ، وبالتالي خلق انطباعا عاما بانفصال المواطنين عن المؤسسات التي من المفترض أن يعملوا من خلالها. كما فقد ممثلي الساكنة تعاطف وثقة ناخبيهم كحالة مستشرية في اغلب الديمقراطيات المعاصرة مما أدى إلى تنامي التعبيرات الفردانية.
وقد يعتبر مرد سبب تلك الأزمة الى “التفكك العام للروابط بين مصالح الشعب والمؤسسات التي تمثله”،[21] مما ساهم في بروز نوع من السياسة التكنوقراطية والغير خاضعة للمساءلة، والتي غالبًا ما أصبح من خلالها الفاعلين الأساسيين في الحقل السياسي أكثر اهتمامًا بالتمسك بالمناصب وتجنب كلفة خسارة مقاعدهم أكثر من اهتمامهم بدعم الأجندة السياسية الأساسية التي تستجيب لتطلعات المواطنين السياسية وتطلعاتهم. ومن المؤشرات القوية على ذلك يلاحظ انخفاض الانخراط في المؤسسات الحزبية وطبيعة والتحالفات الحزبية الهشة وتحول العديد من الأحزاب السياسية و التي تتوفر على شرعية تاريخية وتاريخ سياسي ورصيد هام من النضال الديمقراطي إلى الاعتماد بشكل متزايد على الجهاز البيروقراطي للدولة لممارسة الحكم واستدامة شرعيتها التي قوضتها المشاركة في قرارات سياسية تناقض المبادئ المؤسسة للنفس الحزب مما رسخ لدى العديد من المواطنين الاعتقاد بأن المسؤولين والمنتخبين قد اصبحوا يشكلون طبقة سياسية غير محدد وهلامية تساهم في ممارسة الحكم بعيدا عن الحد الادنى للالتزام التمثيلي لمطالب الكتلة الناخبة وربما ضد المبادئ المؤسسة للايديولوجية الحزبية مما سبب في تنامي العزوف عن الانخراط في الشأن العام السياسي بصفة عامة وعن الانتخابات على الخصوص مما سجل تقلصا متواترا للكتلة الناخبة منذ بداية الاستقلال بمنحنى تنازلي مستمر يشي بموت السياسة مستقبلا .
السيادة الشعبية عبر الأحزاب
ويمكن ايجاد “خط ثالث” لتمكين الشعب من استعادة السيادة الشعبية واعادة ستنبات القيم الديمقراطية في الحقل المجتمعي كبديل للمقاربتين التمثيليتين الآنفة الذكر، والذي يمكن أن يجيب بشكل أفضل على تطلعات الشعب لارساء مرتكزات الديمقراطية الحقة . ويمكن الانطلاق من فرضية أن المقاربة الغير مباشرة للسيادة الشعبية غير كافية مادامت لا تستطيع تمكين المواطنين وخصوصا النخبة التي تمثلهم من الفعل من داخل مؤسسات الدولة لأن الدولة تعتبرهم أساسا ومتلقين سلبيين للقرارات ولان تسليع الحقل السياسي وتدجين جل الاحزاب السياسية عبر الريع السياسي يقتضي احياء الديمقراطية ليس كترف بل كضرورة لتفادي موت السياسية . ومن هذا المنطلق فان هذا الخط الثالث و الذي يتوخى إرساء المقومات الديمقراطية للسيادة الشعبية عبر البدء بالتأهيل الديمقراطي للاحزاب السياسية أولا وقبل كل شيئ ، ويرتكز اساسا هذا التاهيل على الأهمية المركزية لإرساء الديمقراطية الداخلية لداخل الأحزاب السياسية لدمقرطتها حتى يتسنى لها تبني المشروع المجتمعي لتحقيق السيادة الشعبية، على أساس أن مثل هذه الأحزاب ان صارت احزابا ديمقراطية حقيقية انذاك سيمكنها ربط المواطنين بمراكز صنع القرار السياسي والاقتصادي بطريقة مباشرة ومستمرة. ويمكن اعتبار هذا النموذج نموذجا معياريا وممكنا في محيط لم تتحقق بعد الديمقراطية فيه، وبخلاف المقاربتين السالفتين (السيادة الشعبية المباشرة والغير مباشرة) فإن هذا “الخط الثالث” لازال مشروعا للانجاز والذي نادرا ما تحقق في الممارسة السياسية العملية للاحزاب السياسية.
وهكذا يمكن طرح السؤال عن مدى امكانية العثور على السيادة الشعبية في ديمقراطيات العالم ؟ وكمحاولة للاجابة يعتبر كيلسن امكانية تحقق “السيادة الشعبية” بالاساس في الأحزاب السياسية، التي تجمع “أفرادا ذوي تفكير مماثل من أجل ضمان تاثيرهم الفعلي في بلورة الشأن العام”. [17] كما يعتبر ضرورة وجود تنظيم يعزز ويدعم السعي المستمر لتحقيق أهداف سياسية معينة ان أراد “الشعب” ان يمارس سيادته فعلا. وتَوَفُرِ الأحزاب السياسية كقناةٍ مؤسساتية يمكن من خلالها ربط مبادئهم وأهدافهم بالآليات التشريعية والتنفيذية ذات الصلة. وهذه الخاصية الفريدة للأحزاب هي التي تجعلها عوامل التمكين الرئيسية للسيادة الشعبية. و عموما فان “الشعب” “لا يوجد في الواقع كقوة سياسية قابلة للحياة قبل تاطيره وتنظيمه داخل الاحزاب”؛ إن “دمج الأفراد المعزولين في الأحزاب السياسية” هو وحده الذي “يطلق العنان للقوى الاجتماعية التي يمكن نعتها باسم “الشعب، وبالتالي فإن “السيادة الشعبية ” تقع على عاتق الأحزاب السياسية، التي تتزايد أهميتها كلما تطورت ممارستها للمبادئ الديمقراطية. [17]
وطبعا لم تتمكن هذه المؤسسات من تحقيق ديمقراطية حقيقية في محيط حزبي عمليا لم يُنضِج شروط إرساء ديمقراطية حقيقية بتوفير مناخ ديمقراطي حقيقي يتسم بالشفافية المالية، ويشرع المساواة الفعلية، ويدافع عن حقوق الأقليات و يحترم التناوب الديمقراطي وممارسة الاختلاف كأسس صلبة تمكنه من مناعة سياسية تؤهله أن يكون حاملا موضوعيا لمشعل المشروع المجتمعي الذي سيستقطب اغلب طبقات الشعب لتحقيق “السيادة الشعبية” المنشودة. الا أن هذا النموذج المعياري للحزب الديمقراطي لم ينجز بعد هو الأخر بعد ما يناهز 67 سنة بعد الاستقلال !! وهكذا فهل الطالب مؤهل للمطلوب؟ وكخلاصة عامة فان أي تغيير منشود لاساليب الحكم والحكامة لن يحقق حلم “السيادة الشعبية” الا بتغيير الممارسة الحزبية بدءا بدمقرطة الاحزاب التي تطمح الى دمقرطة الدولة والمجتمع حتى تكون مؤهلة سياسيا وتنظيميا كبنيات ديمقراطية قادرة على تصريف مشروع مجتمعي يحقق الديمقراطية ويستق جل الطباقات الشعبية المتضررة… وإلا فسنكون كمن يستمتع بالنفخ في فقاعات الصابون حينما تجليها الرياح…
مراجع
[1 Douglas Harper, “Online Etymology Dictionary: Sovereign,” 2017, www.etymonline.com/index.php?term=sovereign.
[2 Daniel Philpott, “Sovereignty,” in The Stanford Encyclopedia of Philosophy, ed. Edward N. Zalta, Summer 2016 (Metaphysics Research Lab, Stanford University, 2016), https://plato.stanford.edu/archives/sum2016/entries/sovereignty/.
[3. Karataşlı and Kumral, “Territorial Contradictions of the Rise of China.” and Karataşlı, “Financial Expansions, Hegemonic Transitions and Nationalism: A Longue Durée Analysis of State-Seeking Nationalist Movements.”
[4] Stanislav Máselník, “Sovereignty: The History of the Concept,” Faustian Europe A Blog about Contemporary Europe: Politics, International Relations, Philosophy & European Union, July 5, 2008, https://faustianeurope.wordpress. com/2008/05/07/sovereignty-the-history-of-the-concept/.
[5] Derek Croxton, “The Peace of Westphalia of 1648 and the Origins of Sovereignty,” The International History Review 21, no. 3 (1999): 569 p. 261-268.
[6] Krasner paraphrased in David A. Lake, “The New Sovereignty in International Relations,” International Studies Review 5, no. 3 (2003): 303–323 p. 305.
[7] Morgenthau summarized in Ibid. p. 109.
[8] Barkin and Cronin, “The State and the Nation” p. 110.
[9] Lake, “The New Sovereignty in International Relations.”
[10] Stephen D. Krasner, Power, the State, and Sovereignty: Essays on International Relations (Routledge, 2009).
[11] Mouffe, C. (2019). Interview with Chantal Mouffe. In S. Mazzolini, La apuesta por un populismo de izquierda. Nueva Sociedad, 281, 129–139.
[12] Mair, P. (2013). Ruling the void: The hollowing of western democracy. London: Verso Books.
[13] Retamozo, M. (2017). La teoría del populismo de Ernesto Laclau: una introducción. Estudios Políticos, 41, 157–184.
[14] Óscar García Agustín 2020 LEFT-WING POPULISM The Politics of the People Emerald Publishing Limited
[15] Margaret Canovan, The People (Cambridge: Polity 2005): 108-114; cf. also Paulina Ochoa Espejo, The Time of Popular Sovereignty (University Park, PA: Penn State University Press, 2011).
[16] Jürgen Habermas, “Popular Sovereignty as Procedure,” in Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy (Cambridge: Polity, 1996), 463-490; Philip Pettit, On the People’s Terms (Cambridge: Cambridge University Press, 2012);
Nadia Urbinati 2006, Representative Democracy: Principle and Genealogy (Chicago, IL: University of Chicago Press,);
Nadia Urbinati, 2011“Representative Democracy and Its Critics,” in The Future of Representative Democracy, eds. Sonia Alonso, John Keane and Wolfgan Merkel (Cambridge: Cambridge University Press,): 23-49.
[17] Hans Kelsen, The Essence and Value of Democracy, eds. Nadia Urbinati and Carlo Invernizzi Accetti (Lanham, MD: Rowman & Littlefield, [1929] 2013).
[18]Fabio Wolkenstein 2018 : Agents of Popular Sovereignty Volume 47, Issue 3
[19] Baiocchi, G. (2018). We, the sovereign. Cambridge: Polity Press.
[20] István Hont, “The permanent crisis of a divided mankind: Nation state and nationalism in historical perspective,” Political Studies 42, no. s1 (2004): 166-231, at 198.
[21] Philippe C. Schmitter, “The Changing Politics of Organized Interests,” West European Politics 31, no. 1-2 (2008): 195-210, at 208.