الأربعاء, يناير 8, 2025

ونحن نستفيد من تجارب الشعوب: من حقنا أن نميز الدقيق من النخالة

أحمد الخمسي

ونحن نستفيد من تجارب الشعوب:

من حقنا أن نميز الدقيق من النخالة

أولا تعتبر الثقافة السياسية الليبرالية الجديدة البرامج السياسية عبارة عن منافسة بين عروض سياسية مقابل الطلب السياسي. وبذلك لوتْ عنقَ السياسةِ بالمفهوم المواطن الكلاسيكي الراسخ في تجارب الشعوب، لفائدة المفهوم الاقتصادي الــذي لوى عنق الإنسان وحوله من مواطن إلى زبون في سوق السياسة. زبون سلعته الوحيدة الصوت الانتخابي، ومن بعد يمشي يتكمش.

مسبقا أعترف أنه ليس من حقي ولا حق أحد مصادرة أصحاب الرأي بتسليع “المادة” السياسية. لكن صلابة مفهوم السياسة بالمعنى الغربي، يعني العودة للاحتكام للتجارب السياسية. إلى أجدادهم اليونان والرومان يرجع الغربيون لتفكيك مسلسل التبلور، مثلا، يحكي قراء الثقافة الكلاسيكية أن الرومان انتقلوا بدولتهم من الجمهورية إلى الامبراطورية، أي من الانتخاب من تحت إلى التعيين من فوق، لأن العملية الانتخابية فشلت في منع تسرب منطق السوق الى السياسة الجمهورية الرومانية. ومثل ما يحكي شيشرون الروماني عن فضائح شراء الاصوات في الانتخابات الرومانية، يحكي ماكس ويبر (العلم والسياسة بوصفهما حرفة) عن نفس الظاهرة في انجلترا بداية القرن 20.

كي لا أطيل، يرفع اليساريون عقيرتهم ضد الليبراليين (عموما، وفي بلدنا في ظل حكومة الميلياردير)، لأن الليبراليين يُخضعون السياسة للمال. ومن ثم يرفض اليساريون ما يسمونه “زواج السلطة والمال”.

في هذا الباب، لا بدَّ أن يكون للدولة المغربية، التي اصطفت منذ 1961، مع الليبرالية، منطقها الذي تعتبره عقلانيا ومنسجما مع الهدف الليبرالي العام، وهو “إنتاج الثروة”، محورا لكل مسلسل في الاقتصاد السياسي.

بمنطقهم ذاك، ما يريد الليبراليون قوله= إذا لم توجد ثروة أصلا لا يمكن – والحالة هذه- الحديث عن إعادة التوزيع العادل للثروة. هم يعلمون، أن بعض المذاهب الدينية الموغلة في التخلف المنطقي، تعتبر القضاء على العبودية يحرم فقهاء الدين أولئك من إحدى الركائر الاسلامية (تحرير الانسان من العبودية) من المادة الخام الأصلية التي يجب أن تبقى موجودة (العبودية) حتى يتسنى لهذا النوع من فقهاء التخلف الدعوة الى تحرير الناس من العبودية.

وبمناسبة برنامج “الدولة الاجتماعية” الرباعي الدفع، ما بين 2021 و2025، فأكثره ثرثرة وأعطاب في البوابات الالكترونية التي يجب على الناس التسجل عبرها في السجل الاجتماعي. الخبر اليقين من إيدولوجيا الدولة الاجتماعية هو الرفع المقبل للدعم عن البوطاغاز وما سوف يشتعل بعدها من مسلسل الغلاء البنيوي.

ساعتها يضاف الى الغلاء الذي عملت الحكومة على استقراره طبعا ولكن في السماء السابعة. بحيث أصبحت السعادية مهنية يومية للعائلات المعوزة.

إن إعلان الخوف على الاستقلال الوطني في حمأة التحول للنظام العالمي المعولم، انزياح طبقي نحو الأعلى وابتعاد عن الأهداف الديمقراطية. لا من باب النية، بل إما من باب الجهل ونقل الشعارات اليسارية الفرنسية، خصوصا بعد “خطر” فقدان الاورانيوم لفائدة 127مفاعل نووي أوربي، وإما من باب الخوف الطبقي من التركيز حيث يجب التركيز. إن رفع عتبات المساهمة داخل الأحزاب ثم التباكي على رفع العتبات عندما تبادر به الدولة لهو صلب حربائية البرجوازية الصغيرة لدى كل الشعوب. من يرخف الحزام تجاه المجلس الأعلى للحسابات “خوفا وطمعا” (من يملك ثقافة اسلامية يعلم عند بلوغ ذكر هذا عليه أن يسجد)، عليه أن يحتفظ بنفس الروح، وإلا سنكون مثل الذين التجأوا الى “معاداة السامية” (وكل أقلية) لأن العبرانيين سبقوا الى التطبيق الحرفي (=ماليا) مبدأ “رحماء فيما بينهم أشداء على الكفار” (الربا دينيا محرمة بين اليهود محبذة خارجهم). تلك نوازع أخرى مما دفع العروي لذكر النوازع في التعامل السياسي فيما قبل الفكر السياسي الحديث إلا استثناء. واليساريون عندنا قصيرو النظر وقصر النظر يضعف المناعة مع توفر حسن النية. يعني الطريق الى جهنم الفشل تصبح سالكة.

التجربة المغربية أظهرت بالملموس وعبر المقارنة مع البلدان الشبيهة، المملكة الماليزية مثلا، انتقلت من ليبرالية تنتج الأثرياء ولا تنتج الثروة، منذ استقلالها (صيف 1957) إلى سنة 1981، ورغم الملكية البرلمانية ، حتى جاءت حكومة بواسطة الانتخابات دائما، جعلت من برنامجها الإبقاء على صناعة الأثرياء، مثل ما سارت عليه البلاد منذ الاستقلال، ولكن على أساس اندماج النشاط الاقتصادي مع حاجيات السوق المحلي ومتطلبات كرامة المواطن الناخب وليس فقط الاندماج في السوق العالمي. فكان مجيء حكومة مهاتير لخلق اتفاق موسع مفيد للبرجوازية الثرية يحافظ لها على مكاسبها السابقة مقابل الاستثمار في مناطق “ماليزيا غير النافعة” (بالمصطلحات المعمول بها في المغرب). وجد البرجوازي الماليزي (من أصل صيني)، أن الانتفاضات والاضرابات السابقة لن تقع، لأن الحكومة الجديدة صرفت أموال الانفاق في الانفاق وانتهى عهد سرقة الميزانيات، وارتفعت إنتاجية العمال.. وانتهى عهد لبرلمانيخلق الاثرياء فقط وبدل عهد مزدوج = خلق الثروة في المناطق الفقيرة ومواصلة خلق الأثرياء. لم ينادي مهانير يوما ببرنامج لبناء الاشتراكية لأن ليبرالي مسلم ينطبق وصف يسار وسط على برنامج حكومته.

نستخلص من تجربة المملكة الماليزية في النظام والاختصاصات، أن نوع النظام البرلماني الذي يعتبره المغاربة شرط وجود لاتباع سياسة احترافية بعيدة عن منظومة الفساد، شرطا ليس كافيا في حد ذاته، ولكن على الطبقة السياسية أن يكون برنامجها غير يميني مدمر، أي ينتج الأثرياء فقط، كما لا يحق أن يكون برنامجا مخيفا لطرف في معادلة إنتاج الثروة وهم الأثرياء أنفسهم. فقط يجب بنفس العلاقة مع الأثرياء أن يتحقق الشرط الحيوي لإنتاج الثروة وهي حقوق المنتجين لكي تترسخ شروط الاستقرار وتتمتن شروط النمو الذي يفرز التنمية على الأمد الط\ويل (15 سنة فأكثر). مما سمح لماليزيا سنة 1997 مواجهة الأزمة المالية الأسيوية دون اتباع برنامج دعم البنك الدولي. بل، بفضل ذلك، صارت ماليزيا مهاتير مدرسة لإنتاج الثروة والأثرياء.

لماذا تستحق ماليزيا الذكر ها هنا؟ لأن كل مواصفات الشبه مع المغرب موجودة. فقط، ذهابها للاقتراب من مواصفات البلدان المتقدمة، ونجاحها الاقتصادي هو ما يلقي المسؤولية على الطبقة السياسية المغربية، ذات الجذرية اللفظية وفقدان البوصلة العملية.

إن ماليزيا التي يبقى عدد سكانها دون 40 مليون، يفوق اليوم ناتجها الوطني الخام 400 مليار دولار. ما الذي يبقي ناتجنا الوطني الخام دون 150 مليار دولار؟ هل اختفاء البرجوازية المغربية وراء الملكية التنفيذية التي نتبعها؟ أم قصور الطبقة السياسية عن إنتاج برنامج الاقتصاد السياسي الملائم؟ الاستقلال الوطني موضوع الخوف، بالمقياس الماليزي البرجوازي الوطني فهو مفقود أصلا. الاقتراب من الاستقلال الوطني في القرار بدأ فيه الضوء مع قطع حبل الفطام الذي ظهر في السنوات الأخيرة. وما يجب التأكيد عليه هو الملاءمة التعاقدية الديمقراطية. مما يعني فقدان البوصلة والقفز للاقتداء باليسار الفرنسي حيث لا يجب، وهو فقدان النظرة الوطنية اليسارية للبرنامج المطروح.

القدرة على البناء الملموس هي المفقودة… البناء….ثم البناء…والبناء معايير وجوده من عدمه تقاس في المكان والزمان والقطاع ذي الأولوية. لذلك، اليساريون يعطون للدولة مبرر نعتهم بالغوغاء. فهم لا ينكبون على البناء المحلي، ولا يضعون شبكة معايير ملموسة للبناء الحزبي، بالأحرى البناء المركب المعقد…في مختلف القطاعات …حتى التدبير المالي البسيط لا يمارسون فيه الصدق والتطبيق الفعلي لما يطالبون به الدولة= الشفافية، يبذرون حيث لا يجب ويبخلون حيث لا يجب ويطمعون حيث لا يحق ويزايدون حيث من غير المعقول.

أخيرا، قد يكون ضمن الاهتمام بتدقيق الفكر السياسي، الاهتمام بالديمقراطية والشعبوية ولكن، مثلما لا يمكن لأية أمة أن تزايد على الألمان بصدد الدولة الاجتماعية، لأن بسمارك (1881) في هذا المجال هو أستاذ مهاتير متقدما عنه بقرن من الزمن (1981). وهما معا، اكتفيا بالمعايير العملية المتوازنة مع علم السياسة الذي أبدعه الألمان أنفسهم. هم بناة ظروف كرامة الشعبين، ففي ألمانيا البسماركية اقتنع كاوتسكي أن يكون وطنيا أولا. بدل اتباع أولويات لينين الروسي. وانزلقنا نحن لنردد مثل الببغاوات “المرتد كاوتسكي” (لنلاحظ المصطلح الديني في التوصيف). والحال أن ذلك، مثل الذين يذهبون الى الحج ويرجعون بنظريات في الدين والتدين. مثلما اقتنع مهاتير ألا يتبع البنك الدولي سنة 1997.

ليس قدرنا أن نردد دائما ما يملأ به الآخرون لحظات الوقت الميت من تباريهم و صراعاتهم؟ صحيح أن هواة التنظير اليوم في الغرب كُثرٌ، خصوصا من لا يميزون بين الدقيق والنخالة. ولكن يحق لنا نحن أن تفرز نخالتهم عمّ نحتاجه نحن من الدقيق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist