-لحسن التايقي-
سؤال:
هُزمت ثورات الربيع العربي التي نشدت الحرية والكرامة بدرجات متفاوتة. أصلًا ما كان للحكماء أن يحلموا بانتصار مظفر لها، أو كما نشتهي، بعد رحلة طويلة من الاستبداد، وفي ظل سيطرة ثقافة معادية للديمقراطية والحداثة. لكن، ألا تعتقد أن الربيع العربي، على الرغم من نتائجه الكارثية، قد فتح بابًا ليس بإمكان أحد إغلاقه، وأنه سيكون خطوة لربيع آخر مقبل لا محالة، أم أن الاحتمال الأكثر ترجيحًا هو العودة إلى الاستبداد، وكأن قدرنا أن نبقى ندور في “التاريخ الدائري” الذي حدثنا عنه ابن خلدون؟ (هيئة تحرير مجلة رواق ميسلون، العدد الأول، يناير 2021).
جواب سعيد ناشيد:
يبدو أن مجتمعات شمال إفريقية والشرق الأوسط ستبقى حتى إشعار آخر تتأرجح بين أتون الفتنة وبراثن الاستبداد، كلما حاولت الخروج من طوق الاستبداد إلا وسقطت في جحيم الفتنة التي لا يخرجها منه إلا استبداد جديد قد يكون أشد وطأة من سابقه، وهكذا دواليك ضمن حلقة مفرغة شبيهة بدورات التاريخ الخلدوني كما ورد في السؤال.
لماذا؟
العنصر الأساسي للإجابة يوفره ماكس فيبر أكثر من ماركس. مع أن نوايا ماركس هي الأكثر نبلا بالمنظور الإنساني، طالما أن التفاوت الاجتماعي القائم على مصادفات الولادة بدل القدرات والكفاءات ينمي المشاعر السلبية، دون أن ننسى في المقابل بأن المساواة المطلقة بصرف النظر عن القدرات والكفاءات تنمي الكسل والخمول، وهنا يكمن درس نيتشه، إلا أن وجهة نظر ماكس فيبر، والذي استلهم نيتشه، تتيح لنا استحضار منظومة القيم باعتبارها العامل الأساسي في البناء والتنمية. وبكل صدق علينا أن نتساءل:
هل يمكننا بناء التنمية داخل قيم تربط الأرزاق بالغيب أو ضربات الحظ؟
هل يمكننا بناء الديمقراطية داخل قيم تمجد الطاعة، والجماعة، والولاء، وثنائية الحق والباطل؟
في تاريخ الفلسفة السياسية هناك درسان أساسيان:
لقد قدم أفلاطون الدرس الأول: يجب على رجال ونساء الدولة أن يكونوا حكماء. فمن يرد أن يحكم الآخرين عليه أن يكون قادرا على حكم نفسه، بمعنى أن يحكم انفعالاته ورغباته، وإلا سيغدو طاغية في شؤون السياسة، وشقيا في شؤون الحياة. وليس هناك من هو أقدر على حكم نفسه من الحكيم، لأجل ذلك ينبغي أن يمتلك رجال ونساء الدولة الحكمة.
بعد ذلك سيقدم سبينوزا الدرس الثاني: في عصر الديمقراطيات حيث يغدو المواطنون كافة شركاء في الحكم يجب تعميم الحكمة لكي تشمل الجميع. لذلك فالمواطنة هي شيء نتعلمه كما يؤكد سبينوزا نفسه: لا نولد مواطنين بل نتعلم ذلك.
هنا يمكننا أن نسائل المدرسة. لكنه مقام آخر للقول.
ستكون خلاصة الدروس على النحو التالي:
يجب أن يكون رجال ونساء الدولة حكماء بحيث يحكموا أنفسهم، فيتحكموا في انفعالاتهم ورغباتهم بأعلى قدر ممكن من السلاسة، وذلك لكي يسهل عليهم أن يحكموا الآخرين، لكن هذا لا يكفي، إذ طالما القيم التي يؤمن بها الناس تؤثر، وطالما السلطة تنبع أصلا من التحت كما يكشف فوكو، فيجب أن يكون معظم المواطنين حكماء بدورهم، أو على قدر من الحكمة. لا يتعلق الأمر بالحلقة المفرغة لسؤال أسبقية البيضة أم الدجاجة؟ بل يتعلق بالأمر بعملية إعادة ترميم تطال الأسس الوجدانية هذه المرّة. حين يفشل رجال ونساء الدولة في أن يحكموا أنفسهم، ويفشل المواطنون في أن يحكموا أنفسهم بدورهم، وحين تتغول الانفعالات الخطرة، والرغبات الشرسة، لدى الجميع، وقتها تنفجر غرائز التوحش، وتنهار الدول والمجتمعات والحضارات، ويصير الإنسان أشد شراسة من الوحوش الضارية في الأدغال. ولقد رأينا المشاهد التي تدمي القلوب. هنا أيضا تكمن إحدى خلاصات الدرس الدراماتيكي لما كان يسمى بالربيع العربي.
في بداية ثورة الياسمين كتب صحفي فرنسي يقول: أيها التونسيون أين خبأتم الإسلاميين؟! لكن مصائر “الربيع المغدور”، سرعان ما صيرت السؤال على النحو التالي: أيها الثوار أين خبأتم الإنسان؟!
هناك معادلة قوية سبق أن صاغها إدوارد سعيد حين قال: “لا يمكن للضحية أن تنتصر إذا لم تتفوق أخلاقيا على الجلاد”. فأين “الضحايا” اليوم من هذه المعادلة؟!
ذلك هو السؤال.
لكن من يجرؤ على طرح السؤال حين يهيج القطيع !؟
منقول عن صفحة ذ. لخسن التايقي